بلمح البصر، غادر البلد، مؤقتاً، مشهد مدرّجات «السيرك الروماني» المتلفزة، المحمومة بشكل لافت في الآونة الأخيرة.
هذا «السيرك الروماني« كان يتراشق فيه «المجالدون»، حتى الأسبوعين الماضيين، التهديدات، ليل نهار، بـ»فتح كل الملفات»، وهو التوعد «الأبوكاليبسي» الأكثر شيوعاً في الجمهورية الثانية.
لكن سيركنا الروماني من نوع مختلف قليلاً، كان ولم يزل: «مجالدوه» ليسوا مجالدين بحق، لا يكادون أن يحتكوا ببعض حتى يحجموا عن طلب المزيد، وفي برهة تراهم فوق مدرّجات المشاهدين. بدورهم، المشاهدون ليسوا مشاهدين فقط، بل تأخذهم النوبة في الغالب الى تقليد حركات المجالدين.
في «السيرك الروماني« التاريخي، القديم، هذا الذي ألفته ذاكرتنا المعاصرة من كثرة التمثل الهوليودي له، تكون الصراعات الدموية بين المجالدين كسباق الخيل في الأيام العادية، أما ذروة المشاهدة والتشويق فتكون عندما يتواجه الإنسان مع حيوان مفترس، أسد أو دب. المشاهدون على مدرّجات سيركنا يتحمّسون فوق العادة الى مثل هذا، لكن المفارقة أنهم حظيوا، وبدل مباراتهم المتخيلة المشتهاة، بين المجالد والدب، بمهرجان من الصعب الفصل بشكل واضح بين مركّب الاحتدام فيه، وبين عناصر الافتعال، بين ما هو «ديموقراطي» فيه، وبين ما هو «تعويض عن الديموقراطية».
صور عملاقة للمرشحين. سير يظهر أصحابها ليس فقط كمجالدين بل كبونابرتات ضيعهم ودساكرهم والأنحاء. شعارات تعويذية حريصة على ردّ عين الحسد و»صيبة العين»: «يا جبل ما يهزّك ريح» وأخواتها. في بلد يدخل عامه الشغوري الثالث، وبلا سلطات دستورية تعمل، يقوى الميل للتعامل مع الانتخابات البلدية كما لو كانت معركة آخر الزمان، هرمجدون، مع أنه الى أسابيع خلت، كان قسم واسع من الرأي العام ينتظر ذريعة تأجيل الاستحقاق، وقد «خاب ظنّه».
ليس من اللائق استباق نتائج الاقتراع، لأنه، رغم كل الطابع الاحتدامي النزق والمفتعل الى حد كبير، لطريقة خوض هذا الاستحقاق، عند شريحة كبيرة من المهتمين بممارسة «السلطة المحلية»، التي تبقى مجهولة المقام في غياب النقلة الجدية باتجاه اللامركزية، يبقى أنه استحقاق سوف يتم التمعّن بنتائجه، ومحاولة توظيفها، كل فريق لإعادة تلميع سرديته عن الأزمة اللبنانية المزمنة، وخطابه السياسي داخلها. غير أن الفرضية التي يمكن وضعها منذ الآن أنّ القوى السياسية «الأساسية» سوف تحافظ على نفوذها حيث لها نفوذ، فلا «تسونامي» منتظر في أي نطاق. لكن إعادة انتاج أشكال ومساحات النفوذ القائمة بلدية سوف تشهد مع ذلك أزمات داخلية متفاوتة في النطاق الأهلي لكل فريق، أزمات يصعب أن تكون لها آثار تبديلية جدية على المشهد الانتخابي العام، ولو كانت بحد ذاتها أزمات جدية، جدية في حدود عدم إمكانية الربط بينها في الأمد المنظور.
هذا المشهد المنتظر للانتخابات البلدية «من فوق»، يتكامل مع مشهد «مجتمع الأعيان» أو النخب الوسيطة، لكن المفارقة أنه «يتكامل بالمحصلة» أيضاً، مع منتقديه الفاقدين الى حد كبير لشروط نقدهم وأدواته، أي مع المواظبين على الترويج للغة «المنظمات غير الحكومية» مطعمة ببعض الموشحات الشعبوية، والباحثة عن ملاحم في غير مكانها ووقتها. فنحن لم نغادر السيرك الروماني إلا مؤقتاً، وبشكل نسبي، ونعود اليه فور انتهاء موسم «البلديات»، هذه البلديات التي تبرز إيجابيتها النادرة في أنها تبدّد أوهام مقولة «التغيير يبدأ من البلديات»، وهم رؤية «مجتمع الأعيان» كما لو كان «سوفييتات» ديموقراطية مباشرة.