«نتطلّع إلى اليوم الذي يعود فيه الجيش اللبناني إلى ثكناته، متفرِّغاً للقيام بدوره المركزيّ في حماية حدود الوطن».
وزير الداخلية نهاد المشنوق
لا يحتاج الأميركيون والبريطانيون إلى مؤتمر روما 2 لدعم الجيش اللبناني. فالمساعدات العسكرية والمالية واللوجستية للجيش، وتحديداً لأفواج الحدود البريّة التي تشكّلت في السنوات الماضية ومهمتها «ضبط» الحدود اللبنانية ــ السورية تُقَدَّم بانتظام.
وكذلك الأمر، بالنسبة إلى «الفوج النموذجي» المشابه لأفواج الحدود والمنوي تشكيله جنوب الليطاني في منطقة عمليات قوات الطوارئ الدولية «اليونيفيل»، الذي سيُموَّل أميركياً، سواءٌ أتوافر الدعم العربي أم لم يتوافر في المؤتمر المنوي عقده يوم الخميس المقبل في العاصمة الإيطالية.
أهداف مؤتمر روما 2، بحسب مرجع أمني رفيع المستوى، لا تنحصر بدعم الجيش. بل إن دعم قوى الأمن الداخلي وفرع المعلومات، هو الغاية العميقة من المؤتمر الدولي، والمساحة المناسبة لتسويق الخطة الخمسية التي أعدتها قوى الأمن، في مشروع قديم ــ متجدِّد.
في عام 1994، أُعيدت هيكلة قوى الأمن الداخلي وعُدِّلَت صلاحيات أجهزتها وأركانها. سعى الرئيس الراحل رفيق الحريري إلى تشكيل جهاز أمني ــ عسكري رسمي يكون سنداً له ويواكبه في عمليّة التحوّل التي أحدثها اتفاق الطائف على توزّع صلاحيات الطوائف والأمن في البلاد. أنتجت التغييرات توسّعاً في صلاحيات فرع المعلومات. لكنّ التأثير السوري الأمني والسياسي في البلاد، لم يسمح للتغييرات الجديدة بالتحوّل إلى واقع. سنوات قليلة، وتحديداً في عامي 1996 و1997، صار مشروع الحريري المدعوم أميركياً، أكثر وضوحاً للقوى السياسية: المطلوب عودة الجيش اللبناني إلى الثكنات في ظلّ قيادة العماد إميل لحود، وتسلّم قوى الأمن المهمات الأمنية، من الأمن الداخلي إلى مكافحة الإرهاب، إلى السيطرة على المعابر الحدودية البريّة والبحرية، على حساب الأجهزة الأمنية والعسكرية الأخرى. لكن لم يكن لهذا المشروع أن يأخذ مجده في ظلّ الوجود السوري، لاعتبارات تتعلّق بتوزّع الأجهزة الأمنية على الطوائف، والمعادلة السياسية ــ الأمنية اللبنانية ــ السورية التي أُرسيت في البلاد، على أساس إلحاق الهزيمة بإسرائيل في جنوب لبنان.
بعد اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، تغيّرت الظروف. المعادلات الجديدة، وإن سمحت لفرع المعلومات، مع الدعم المميّز الذي يلقاه عدّةً وعديداً، بتوسّع دوره أمنياً وسياسياً على حساب الأجهزة الأخرى (وخاصة الشرطة القضائية)، والإمساك بقوى الأمن الداخلي، إلا أن الفرع الذي يملك هامشاً من الصلاحيات «في السياسة» أوسع من شعبة، لم يستطع تيار المستقبل شرعنة توسّعه هذا، فبقي في النصوص وعلى الورق فرعاً لا شعبة.
لم يخفِ الوزير نهاد المشنوق، في كلمته أمام سفراء 34 دولة خلال الاجتماع التحضيري لمؤتمر روما 2 في السرايا الحكومية منتصف الشهر الماضي، حنينه إلى المشروع الحريري. رسم المشنوق إطاراً عاماً للرؤية ذاتها، تبدأ من منهجية عمل وزارة الداخلية في السنوات الأربعة الماضية وتطوير قدراتها التقنية والالكترونية، والتي «سمحت بتحقيق الانجازات»، ولا تنتهي عند «اليوم الذي يعود فيه الجيش إلى الثكنات»، وصولاً إلى «اليوم الذي يصبح فيه السلاح غير الشرعي، كلّ السلاح غير الشرعي، بإمرة الدولة وحدها دون سواها».
سعى الحريري الأب إلى تشكيل جهاز أمني رسمي يواكبه في تحولات ما بعد الطائف
بالنسبة لوزير الداخلية، «فرع المعلومات أثبت أنه الجهاز الأكفأ في الأمن، وهو ليس جهازاً لفئة دون أخرى، والدليل مواجهة الإرهابيين وعملاء إسرائيل على حدٍّ سواء». ويعطي الوزير مثالاً على ذلك، «كشف محاولة اغتيال القيادي الحمساوي في صيدا مؤخّراً». اعتداد المشنوق بفرع المعلومات، يوازيه تقديرات حول رؤية التطوّر في الأجهزة الأمنية الأخرى، والتي «تحتاج إلى سنوات طويلة لتتطور، الأمن العام مثلاً يحتاج خمس سنوات وأمن الدولة إلى عشرة». إلّا أن جهازي الأمن العام وأمن الدولة، لا يملكان الدعم الكافي، مادياً وعددياً لتحقيق هذا التطوّر، على الرغم من تحقيق الأمن العام إنجازات كثيرة في الأعوام الماضية في مواجهة المجموعات الإرهابية وخلايا عملاء إسرائيل، تتوافق مع صلاحياته المنصوص عليها في القانون بمكافحة الإرهاب والتجسّس. ولا شكّ في أن ملفّ العيتاني ــ الحاج والضجّة الإعلامية التي رافقته، أعطى رافداً لسردية المشنوق، من «تفوّق المعلومات» على نظرائه.
هل ستحصل قوى الأمن على الدعم في روما؟ يضع القيّمون على الخطّة الخمسية لقوى الأمن، تصوّراً لاحتمالات الدعم، ولا سيّما أن زيارة الرئيس سعد الحريري الأخيرة للسعودية ولقاءه الملك سلمان وولي العهد محمد بن سلمان، أعادت الدعم المالي العربي إلى روما. ففيما تتطلّب الخطّة الخمسية 500 مليون دولار لتحقيقها، يتوقّع القيّمون عليها أن تحصل قوى الأمن على 200 مليون دولار على دفعات، بغية الشروع بالخطّة. حتى إن أفكاراً كثيرة تدور في ذهن القيِّمين على قوى الأمن، منها توسيع «ثكنة الشهيد وسام الحسن» في الضبية، لتضمّ مهبطاً للمروحيات ومرفأً لقطعٍ بحرية تابعة لقوى الأمن الداخلي، علماً بأنّ «المعلومات» كان قد درّب عدداً من الطيارين على قيادة المروحيات.
في المنطقة نموذج للجيوش والأجهزة الأمنية يحبّذه الأميركيون ويسعون إليه، يراوح بين جيوش الأقاليم كالبشمركة الكردية، والنموذج الأردني. والمشنوق مثلاً، معجبٌ بالنموذج الأردني، وهو عبَّر عن ذلك علناً خلال زيارته العام الماضي لعمّان. فالجيش الأردني تحوّل في السنوات الماضية إلى جيش من القوات الخاصة يصلح لخوض الحروب الصغيرة، وليس مواجهة إسرائيل أو جيش كلاسيكي كبير، فيما تتولى الأمنَ الداخلي قوات الشرطة والدرك وجهاز المخابرات العامة.
هل ينجح المشنوق في ما فشل به الحريري الأب؟ وهل تسير القوى السياسية الأخرى، ولا سيّما الرئيسان ميشال عون ونبيه بري وحزب الله، في ظلّ التركيبة الطائفية للأجهزة الأمنية والعسكرية وتوزّع الحصص في النظام اللبناني بين الطوائف، بهيمنة جهاز واحد على الأمن في لبنان أو بتشكيل جيش جديد من قوى الأمن يزيد عديده على 35 ألفاً، وهو الذي يطمح إليه وزير الداخلية؟ (في القانون، لا يجوز أن يتخطى عتبة الـ29 ألفاً بين ضابط ورتيب. اما المُحَقَّق، فلا يتجاوز حالياً عتبة الـ24 ألفاً. ومنذ عام 2005، ارتفع عديد قوى الأمن الداخلي من 13 ألفاً إلى 24 ألفاً حالياً. وتحول الاستقالات الدائمة والإحالة على التقاعد والتطويع غير المنتظم دورياً دون الوصول إلى رقم 29 ألفاً).
ثمّة معوِّقات كثيرة تحول دون تحقيق رؤية الحريري الأب. فالنظام اللبناني، كان ولا يزال نظاماً تحاصصيّاً يشكّل الدولة العميقة الوحيدة. والتحوّلات الجديدة في البلاد والمنطقة، تشير إلى تثبيت المحاصصة أكثر فأكثر، لا إلى تفكيكها لحساب نظام مدني وطني، ما يُبقي الأجهزة الأمنية المتعدّدة في حصص الطوائف، وإن تحوّلت بالشكل إلى «مؤسسات دولة». ثم إن حصص الطوائف، تمنع تشكيل آلية قانونية لتنسيق عمل الأجهزة الأمنية في بوتقة واحدة مثل أي دولة حديثة تملك أجهزة متعدّدة، أو حتى دول المحيط مثل مصر وسوريا ودول الخليج.
في السياسة، لم يكن المعلومات، جهازاً للجميع، بل انخرط بعد اغتيال الحريري في ملاحقة خصوم سلطة 14 آذار، فضلاً عن انخراطه المبكر في الحرب السورية ورفد المجموعات المسلحة السورية بالدعم والغطاء في الداخل اللبناني وعبر الحدود. وما تراجعه، بعد اغتيال العميد وسام الحسن، عن لعب الأدوار السياسية إلّا رهناً بالظروف وموازين القوى. أما عودة الجيش إلى الثكنات، فتلك قضية معقّدة. الجيش هو إنجاز ما بعد الحرب الوحيد بعقيدته القتالية بالعداء لإسرائيل ومساهمته في ضبط إيقاع الأمن الداخلي والتوازنات. وهذا القرار السياسي هو رهن بظروف الحرب مع العدو الإسرائيلي، التي دفعت أصلاً إلى انتشار الجيش في ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، المستمرة منذ اتفاق الطائف.