يُفترض من حيث المبدأ وأبواب الحصافة والحسّ السليم، ثم مع جرعة معقولة من المنطق الذاتي قبل العام، أن يتلقّف “حزب الله” رسالة الرئيس سعد الحريري إليه على الهواء مباشرة، وأن يُبادر إلى جواب يليق بها باعتبارها مَنفذاً من مأزق لم يكن من داع للوصول إليه أصلاً!
“حزب الله” افتعل أزمة التوزير فيما هو مأزوم. وبدلاً من السعي (على عادته) لتحميل غيره “لملمة” تبعات قراراته وقراءاته وارتكاباته آثر هذه المرّة أن يدعس دعسة ناقصة (إضافية!) وأن يُعرقل حكومة يمكن من خلالها ضبط الانحدارات التأزميّة الشاملة بما يخفّف حُكماً من وطأة تأزّماته الذاتية البيّنة والواضحة.
والكلام مكشوف. وشبهة “التواطؤ” فيه صحيحة من زاوية “المصلحة الوطنية العامة” أساساً. ومن منطلق الاستمرار في السيرة التي اتُّبِعَت سابقاً وحكمَت بتوافق الحد الأدنى على إبقاء لبنان بعيداً عن حرائق المحيط. وخارج منظومة الفتنة الحارة والدموية. وتحت سقف التعايش بين المتناقضات، والتسليم بواقع غير طبيعي وسيّئ ولكن نقضه سيجعل منه أكثر سوءاً.
“مصلحة لبنان” بهذا المعنى أوجبت منطق التسوية وحتميّتها برغم ظواهرها المتكسّرة. أي برغم تفلّت “حزب الله” في هواه الإيراني وذهابه الدائم إلى أخذ حروب طهران بصدره وناسه! وبرغم إصراره على إلحاق الأذى بمصالح اللبنانيين بعد ازدراء خصوصيات غيره! ومحاولته الحثيثة لمدّ يده إلى تلك الخصوصيات ومن أبواب عدائية وزبائنية متلائمة مع سياساته ومصالحه وارتباطاته (الأسدية والإيرانية) وليس من أبواب أخرى كالتي يدّعيها اليوم ويضعها تحت خانة “الوفاء” وما شابه!
غيره ذهب إلى التسوية اختياراً وهو ذهب إليها اضطراراً.. ولو أمكنه (وبعض الظنّ ليس إثماً هنا!) لما تردّد في اعتماد التكتيك الحوثي لبنانياً! ولما ارتضى لغيره ما يرتضيه هؤلاء له! وفي هذا كان لبنان ولا يزال وسيبقى مثالاً للاستحالة، ولانكسار الآمال والتمنيات أمام الحقائق السافرات والواضحات والصخريات وبما يوضّح الفارق بين الممكن والمستحيل: الممكن هو “المشاركة” المتقدّمة في السلطة، والمستحيل هو بلع كل تلك السلطة!
ارتضى بالتسوية على قاعدة “استقلاليته” الذاتية وليس على قاعدة التنازل عن تلك الذاتية خدمة للشأن العام والمصلحة الجامعة.. ولم يتراخَ في كل حال، في ممارسة تلك القناعة. لا عندما ذهب إلى سوريا للمشاركة في نكب شعبها وترميد عمرانها. ولا عندما ذهب “لرعاية” الحالة الحوثية في اليمن (وفي الحديدة هذه الأيام!) ولا عندما (قبلهما) قدّم “خدماته” في العراق. ولا عندما تولّى قول ما لا تريد إيران قوله مباشرة في السعودية ودول الخليج العربي.. ولا في غير ذلك الكثير! .. ارتضى بالتسوية لأنها تريحه داخلياً ونسبياً وليس لأنها تريح الوضع اللبناني العام!
أزمته الراهنة متأتّية من أزمة راعيه الإيراني. وهذه ستكبر ولن تصغر. وعامل الوقت فيها ليس سلاحاً مضموناً هذه المرّة، بل ربما العكس في ضوء ضراوة العقوبات وحدّتها في مقابل ضمور مقوّمات “الصمود” في وجهها بانتظار مستجدّات تغييرية في واشنطن أساساً! .. وأزمته مُضاعفة باعتبار أنه وَجَد نفسه مطلوباً للخدمة إيرانياً فيما هو مطلوب للخدمة لبنانياً! أي أنه يريد حكومة تحت سقف الحاجة إليها، لكنه يريد الانصياع لنداء إيران تحت سقف حاجتها إليه، وليس افتراء عليه الاستنتاج الكئيب بأنه مجدداً (وحتماً!) وضع إيران قبل لبنان!
المأزق المركّب الذي ابتدعه لا مردود إيجابياً له بل سلبياته واضحة: سيتعب أكثر داخلياً من دون أن تستفيد إيران خارجياً. ورمية التعطيل هذه لن تصيب هدفاً مأمولاً. ولن تدفع أحداً (الأميركيين تحديداً) إلى إعادة النظر في حساباتهم وخطواتهم وقراراتهم، بل العكس هو الحاصل والذي سيحصل.. ومروحة العقوبات دائرة على مَدَاها الواسع من لبنان إلى إيران إلى كل تفصيل ذي صِلة: دول وأسماء وشركات ومؤسسات وسيطة مالية وخدماتية.. الخ.
.. لم يقطع الحبل الرئيس الحريري بالأمس بل تركه ممدوداً بانتظار يد وسيطة تتلقّفه وتُعيد ربط التسوية (والحكومة من ضمنها) بما يريح لبنان و”الجميع” فيه مبدئياً ونسبياً!