سأتّكل على الله وحده وأفترض، أنّ الروس في الأيام القليلة الماضية صعّدوا عملياتهم العسكرية في الشمال السوري بطريقة «استفزّت» الأميركيين بقدر ما أحرجتهم! ما دفع بعض المتابعين والمحلّلين والمهتمّين والمهمومين إلى طرح أسئلة عن موقف واشنطن، وردّها على ذلك الخروج عن النص، وعن كيفية ترجمة «غضبها».. المفاجئ!
وسأتّكل على الله وحده أيضاً وأفترض، أنّ عامِلَي الاستفزاز والإحراج، اللذين أصابا واشنطن، لن يؤدّيا إلى شيء! ولن يعدّلا في أجندة واشنطن حرفاً! ولن يدفعاها إلى رفع البطاقة الحمراء أو الصفراء في وجه البلطجي الروسي.. إنّما جلّ وكل ما ستفعله (منطقياً ومن دون أي أوهام!) هو تماماً ما بدأته عبر وزارة الخارجية والوزير جون كيري، أي إصدار مواقف تتّهم موسكو بتفشيل مفاوضات جنيف! وتؤكّد مجدّداً أهمية العمل على «الحل السياسي» المنشود! ولا شيء غير ذلك!
وهذا لا ينفي، أنّ البلطجي الروسي خرج فعلياً عن النصّ عندما تفاخر بشنّ 900 غارة جوّية في غضون يومين أو ثلاثة.. إذ «المفهوم» هو أنّ هذه عملية متدرّجة تستدعي توجيه ضربات محدّدة إلى المعارضة لجرّها إلى جنيف! والـ900 غارة جاءت وفق حسابات روسية أسدية رديفة للحسابات الروسية الأميركية، وما كان لها أن تُضيف شيئاً طالما أنّ المعارضة «صارت» في جنيف فعلياً! وطالما أنّ الصورة المركّبة والمعروفة تفيد بأنّ بقايا السلطة الأسدية لا تريد أيّ «حل سياسي» وأنّ أيّ تطوُّر ميداني لصالحها على الأرض، ومهما كانت هشاشته، يدفعها إلى تعزيز أوهامها، التي يُفترض (حسب الفهم الأميركي) أنّها خارج مدوّنة «التفاهم» بين واشنطن وموسكو!
تعقيدات المشهد السوري وتواترها وكثافتها ودمويتها، لا تحجب كثرة الحديث عن ذلك «التفاهم» ولا تغيّب خلاصاته، التي تذهب إلى الألوان الوردية الصافية برغم كل هذا السواد.. أي التي تقول إنّ الروس «لُزِّمُوا» أمرَين كبيرين في سوريا. الأوّل هو «إضعاف» المعارضة، كل المعارضة وليس بعضها، والثاني هو «إضعاف« النفوذ الإيراني المقابِل، في سياق تحضير المسرح السوري لحل أخير، أهم ما فيه لاحقاً هو تغييب حكم آل الأسد.. إلى الأبد!
والكلام المتداول في هذا الشأن، يذهب إلى الاستطرادات الاقليمية التي تبدو في الظاهر وكأنّها مُبهمة! كأن يقول خالد خوجة مثلاً إنّ المعارضة لم تحصل منذ ما قبل انطلاق عملية جنيف على أي دعم تسليحي خارجي! وأن يُكشَف النقاب عن «إقفال» مسارب الجبهة الجنوبية!.. وأن تنفي تركيا أي نيّة أو خطط للدخول البرّي إلى الشمال السوري برغم المخاطر الاستراتيجية المتأتية عن أي تطوُّر دراماتيكي في حلب تحديداً!
ويحلو لبعض القراءات (الوردية!) أن تضع الموقف الأميركي والإعلامي العالي النبرة إزاء الغارات الروسية والتصعيد الأخير، في سياق «طمأنة» الحلفاء الاقليميين إلى «متانة» «التفاهم» الأصلي مع الروس.. وذلك بدوره يمكن أن يكون موازياً لكلام روسي مقابل «يطمئن» تركيا، بشكل غير مباشر، إلى أنّ «ستاتيكو» حلب لن يتزعزع! وأنّ العامل الكردي لا يزال في اطار المناورات التكتيكية، ليس إلاّ!
.. افتراض شيء آخر، يعني في مكان ما، أنّ واشنطن «غدرت» بكل حلفائها، العرب وغير العرب! ووضعت المدماك الأوّل على طريق حروب كبرى مع الروس لن تكون هي ولا أوروبا خارج نطاقها!.. وهذا، برغم كل شيء آخر، لا يزال بعيداً عن الواقع والمنطق والعقل!
مدوّنة أوهام المحور الأسدي الإيراني تضعه في عالم آخر. وهو الذي يفترض (ويصدّق!) أنّ بشار الأسد أهم لموسكو، من مصالحها الاستراتيجية الدولية مع تركيا والعرب والعالم أجمع.. وأنّها من أجله مستعدّة للدخول في حروب كبيرة وصغيرة لتكسير رأس كل مَن يعارضه!
.. وهي مدوّنة أوهام، لكنها في كل حال، تتغذّى مرحلياً، على أداء وحشيّ همجيّ ألحق بشعب سوريا نكبات لا تُوصف سيبقى عارها في رقبة مرتكبيها إلى يوم الدين!