لا غرابة أن يرتفع منسوب التوتر لدى أركان النظام الإيراني وجنرالاته. تعرف طهران أن فصلاً جديداً صعباً بدأ منذ اللحظة التي أطل فيها دونالد ترمب على العالم معلناً خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران. وما فعله الرئيس الأميركي منذ ذلك التاريخ حتى اليوم يندرج في باب الضربات المؤلمة الموجهة إلى طهران.
كان الاتفاق الذي توصلت إليه إيران مع الدول الست في صيف 2015 إنجازاً إيرانياً بكل ما للكلمة من معنى. اعتبرته طهران نزعاً لفتيل أي مواجهة محتملة مع أميركا وشهادة حسن سلوك دولية مرفقة باستعادة مبالغ مالية هائلة. والحقيقة هي أن أهم ما في الاتفاق هو ما غاب عنه. لقد نجحت طهران بإبقاء سلوكها الإقليمي وتدخلاتها في دول المنطقة وترسانتها الصاروخية خارج أي تفاوض. وهكذا صار باستطاعتها استثمار عائدات الاتفاق النووي في تمويل اندفاعتها الكبيرة في الإقليم.
وقد تكون إيران اعتقدت أن الخروج من الاتفاق مستبعد بسبب تحوله اتفاقاً دولياً. وأن إشارات ترمب عن عدم رضاه عن مضمونه وروحيته ومهله وعدم الربط بينه وبين السلوك الإقليمي لإيران لن تتعدى محاولات الضغط العادية. لكن يخطئ كثيراً من يعتقد أنه يدرك المدى الذي يمكن أن يذهب إليه ترمب في قراراته. إنه رجل يتخذ بسهولة مفرطة قرارات غير عادية في مواضيع شائكة.
وقد يكون ارتفاع منسوب التوتر عائداً إلى اكتشاف إيران أن تمسك الموقعين الباقين بالاتفاق لا يعوض خروج أميركا منه. وأطلق الإيرانيون في الأسابيع الماضية أكثر من إشارة تنم عن عدم ثقتهم بقدرة الأوروبيين على توفير ما تحتاجه إيران من ضمانات سياسية وتعويضات مالية. ترافق ذلك مع رسائل صريحة جاءت عبر شركات أوروبية سارعت إلى القول إنه إذا كان عليها أن تختار بين العلاقة مع إيران والعلاقة مع أميركا فإنها تختار الثانية بلا تردد.
لم يكن قرار ترمب الخروج من الاتفاق النووي نزوة أو ضربة تلفزيونية. التحرك الذي تقوم به إدارته استعداداً للعقوبات النفطية المقرر أن تبدأ في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يوحي بأن إيران ستواجه انخفاضاً في صادراتها وتالياً في مداخيلها وفي وقت تزايدت فيه أعباؤها بفعل انخراطها في مواجهات عسكرية والتزامها بتمويل ميليشيات حليفة في ساحات عدة.
أخطر ما في الصعوبات الاقتصادية التي تلوح في الأفق هو إمكان انتقال المتاعب إلى الملعب الإيراني نفسه، أي إلى عقر دار النظام. وإذا أخذنا في الاعتبار الاحتجاجات المطلبية الجوّالة في المدن والمناطق الإيرانية أدركنا أن مزيداً من نقص الموارد يمكن أن يصبَّ الزيت على نار النقمة الشعبية التي رافقها ارتفاع شعارات تطالب بوقف الإنفاق على حروب الخارج للالتفات إلى أوضاع الداخل. صحيح أن الأجهزة الإيرانية تمتلك خبرة غير عادية في محاصرة الاحتجاجات وتشتيتها وإطفاء نارها، لكن الصحيح أيضاً أن مشاعر الخيبة من أداء الحكومات المتعاقبة قد يضع النظام أمام امتحانات صعبة. والأرقام التي تنشر حول البطالة والفقر وتدهور سعر العملة وتراجع مستوى الخدمات تنال بالتأكيد من صورة النظام وحكوماته.
يضاف إلى ذلك أن الأوروبيين الذين أعلنوا التمسك بالاتفاق النووي مع إيران لم يترددوا وفي أكثر من مناسبة في إدانة سياسة زعزعة الاستقرار التي تنتهجها إيران على مستوى الإقليم. وليس بسيطاً أن يسود الاعتقاد في المنطقة وخارجها أن لجم سياسة زعزعة الاستقرار الإيرانية لا يقل أهمية عن ضرورة لجم طموحاتها النووية.
ثمة أسباب أخرى أيضاً بينها أن حرائق المنطقة ليست متروكة في عهدة القوى الإقليمية مواجهة أو اتفاقاً، بل صارت في عهدة القوى الدولية الكبرى. التدخل الروسي الحاسم في الحرب السورية كثير الدلالات في هذا السياق. والتسليم الدولي بسوريا الروسية هو في وجهه الأول دليل على الرفض الإقليمي والدولي لقيام سوريا الإيرانية. وتولي روسيا رعاية عودة الجيش السوري إلى خطوط فك الاشتباك مع إسرائيل ووفق القواعد التي كان معمولاً بها منذ 1974 رسالة صريحة لإيران بالابتعاد عن المنطقة. وتدرك طهران تماماً أن موضوع سوريا عولج في قمة هلسنكي الأميركية – الروسية انطلاقاً من مستلزمات أمن إسرائيل وضبط التدخلات الإيرانية ومساعدة النازحين السوريين. يضاف إلى ذلك أن التدخل الإيراني في اليمن ليس موعوداً بالنجاح وأن عاصمتين من العواصم الأربع التي احتفلت طهران بانضمامها إلى منطقة نفوذها، وهما بغداد وبيروت، تشهدان تنازعاً على تشكيل الحكومة رغم إجراء انتخابات.
ولأن الصورة على هذا النحو تصاعد منسوب التوتر في طهران. ظهر ذلك جلياً في تصريحات الرئيس حسن روحاني التي لمّح فيها إلى إغلاق مضيق هرمز إذا تعذر على إيران تصدير نفطها. وحظيت لهجة روحاني هذه بمباركة المرشد وإشادة جنرالات «الحرس». وتأكيداً لعمق المخاوف ذهب روحاني أبعد من ذلك. قال لترمب: «لا تلعب بذيل الأسد فلن يؤدي ذلك إلا إلى الندم». وكان اللافت لجوء روحاني إلى تعابير من قاموس صدّام حسين حين قال للرئيس الأميركي إن «السلام مع إيران سيكون أم كل سلام، والحرب مع إيران ستكون أم كل المعارك».
واضح أن الشرق الأوسط يتجه نحو شهور صعبة. وأن التوتر ينتقل من الملف السوري إلى الملف الإيراني. وواضح أيضاً أن الخيارات الإيرانية صعبة. إما تجرع سم العقوبات مجدداً وانتظار رحيل ترمب، وإما القبول بمفاوضات حول البرنامج النووي والدور الإقليمي معاً. والخياران صعبان للمرشد وجنرالات «الحرس». أما الذهاب إلى «أم المعارك» فتجربة صدّام حسين لا تشجع على ارتكاب رحلة مدمرة من هذا النوع.