تدريجا تتكشّف خيوط فضيحة رومية التي استدرجت سريعا شارعا مُستفزّا أصلا، وحملات منظّمة من جانب تنظيمات وعناصر متطرّفة على مواقع التواصل الاجتماعي ضد وزير الداخلية، ورَسَت على مؤتمر صحافي مشترك للمرة الاولى بين الوزيرين نهاد المشنوق وأشرف ريفي!
يضاف هذا المشهد طبعا الى الإدانة الجامعة، من كافة الاطراف، للوحشية التي مارسها عسكريون بحق سجناء، محوّلين إحدى غرف سجن رومية الى نسخة حيّة من سجن ابو غريب وغوانتانامو. بقعة الزيت انحسرت قليلا، لكن ليس الى الحدّ الذي يكشف ملابسات قضية تكفّلت بتحويل الانظار عن كافة الازمات المشتعلة داخليا واقليميا.
في 30 نيسان الماضي عقد الوزير نهاد المشنوق مؤتمرا صحافيا خصّصه لعرض وقائع التمرّد الذي حصل في المبنى «د» وعملية الاقتحام التي نفّذت قبل عشرة ايام مرفقا بوثائقي كشف بالصورة جوانب عدّة من عملية التمرّد و «إنجازات» المساجين في تخريب المبنى وإضاعة ملايين الدولارات التي صرفتها الدولة على ترميمه، والاهم الإعلان بشكل صريح عن ضرب السجناء لعناصر القوى الأمنية وحرس السجن، وخلعهم عنهم ملابسهم، وإهانتهم، وإشعال النار مستخدمين أسرّتهم وأمتعتهم.
حصل ذلك بعد سلسلة شكاوى وتقارير سابقة تكوّمت فوق مكتب المشنوق تتحدّث عن انتهاكات صريحة يمارسها بعض الموقوفين الاسلاميين بحق العناصر الامنية المولجة حمايتهم والتي تصل الى حدّ التحقير والضرب والتهديد بالقتل!
يومها كشف وزير الداخلية ان عدد العناصر الأمنية الذين اصيبوا في عملية قمع التمرّد بلغ 11 عنصراً، اثنان منهم أصيبوا بحروق من الدرجة الثانية. عمليا أحدهم، وهو العريف كمال الخوند، لا يزال يعاني من حروق بالغة في وجهه ويديه قد تؤدي الى تشويه لمدى الحياة.
في المؤتمر نفسه أشار المشنوق الى «ان تقرير قوى الامن حدّد 21 إصابة بين السجناء، من أصل 111 سجيناً يقال إنهم تعرّضوا لكدمات بسيطة، أما الصليب الاحمر الدولي فأكد لي بعد زيارته السجن، أن عدد الإصابات مطابق، بل أقل من الرقم الموجود». يوم رومية في نيسان الماضي انتهى بتشكيلات طالت بعض ضباط السجن، وعقوبات مسلكية بحق اثنين من العناصر الامنية.
لكن بعد تسريب «أشرطة التعذيب والهمجية» تغيّر كل الموضوع. بغضّ النظر عن كل ما قيل عن حسابات داخلية ضيّقة داخل «تيار المستقبل» مرتبطة بالفضيحة، وعن زجّ «حزب الله» منذ اللحظة الاولى في مسألة التسريب وحتّى المشاركة، وعن تأكيد المؤكّد بأن الرئيس سعد الحريري لم يعد يمون إلا على جزء من شارع كان سابقا تحت سيطرته بالكامل، فإن سؤالا اساسيا يختصر كافة الاسئلة كان يطرح نفسه بقوة: هل من أمر مباشر سياسيا او أمنيا، بغض النظر عن مستواه، هو الذي دفع بعض عسكريّي رومية الى المشاركة ومن ثم التغطية على جريمة التنكيل ببعض السجناء بأسلوب وحشي وغير أنساني؟
عمليا، وفيما تتطلّب الاسئلة الاخرى المرتبطة بجريمة رومية الكثير من الوقت ربما لكشف ملابساتها، وأهمّها عن توقيت التسريب والمستفيد منه بشكل مباشر وغاياته، فإن الاجابة على السؤال الاول لم تتأخر طويلا.
فقد أكّد مدّعي عام التمييز القاضي سمير حمود، الذي تسلّم، بالامس، محضر التحقيقات الاولية مع الموقوفين ثم أحاله الى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر الذي أدّعى بدوره على الموقوفين الخمسة واحالهم الى قاضي التحقيق العسكري الاول رياض ابو غيدا أن «مَن مارس التعذيب إنّما قام به بمبادرة شخصية وبلا إيعاز من أحد ولا الرجوع لا إلى رؤسائه ولا إلى أيّ مرجَع آخر».
ويتلاقى هذا الاعلان مع معلومات مؤكّدة تفيد أنه قبل حصول عملية الاقتحام في نيسان الماضي من جانب «شعبة المعلومات»، كانت التعليمات صريحة وجازمة بضرورة عدم التعرّض لاي سجين، حتى لو ضربة كفّ، تأمينا لعملية أمنية نظيفة تتوخّى عودة الهدوء الى المبنى «د» (كما حصل سابقا في المبنى «ب» في كانون الثاني الماضي)، والسيطرة على بؤر التمرّد، وتوزيع المجموعات المعتدية والخطرة لاحقا على اقسام السجن كافة.
وقد جاءت عملية اقتحام المبنى في 20 نيسان الماضي بعد مفاوضات شاقة قادت الى تحرير 12 عسكريا تمّ اختطافهم من قبل الموقوفين الاسلاميين إضافة الى طبيبين وممرّض، فكانت العملية أكثر من ضرورية لمنع تحويل المبنى «د» الى نسخة أكثر خطورة من المبنى «ب».
ووفق المعلومات، تسنّى لعسكريّين اثنين هما حبيب ج. (ظهر ملثما في الشريط) وعصام ش. (كشفت التحقيقات لاحقا وجوده في الغرفة ومشاركته في الضرب والتنكيل) التسلّل الى الغرفة التي كانت تضمّ عددا من الموقوفين المسؤولين عن عملية الشغب وإشعال الاسرّة والتعرّض للعسكريين بمواد حارقة. هؤلاء تمّ احتجازهم يومها في جناح في الطابق الثاني من المبنى الذي يتألّف من ثلاثة طوابق (كل طابق يتضمّن ثلاثة اجنحة)، فيما تمّ فرز عسكري واحد على باب الجناح لحمايته.
وفيما كانت العناصر الامنية الاخرى تتولى إكمال سيطرتها على باقي طوابق وأجنحة السجن تسلّل حبيب وعصام إضافة الى العنصر عبدو ص. (الذي قام بتصوير مشاهد الضرب والتعذيب) الى جناح الاسلاميين المحتجزين والذي انسحبت القوة الامنية منه لإكمال عملها في باقي المبنى.
وكانت حجّة المتسلّلين في تجاوز الطابق الاول ودخول الطابق الثاني تأمين لوازم الاقتحام للمجموعات الاخرى حيث كانوا يحملون بعض الذخائر والرصاص المطاطي وقنابل مسيّلة للدموع، لكنهم ما إن دخلوا الى الغرفة حتى انهال حبيب وعصام بالضرب على بعض المساجين (ظهر ثلاثة منهم فقط في الفيلمين).
وقد ادعوا في التحقيقات ان الدافع الاساسي لقيامهم بهذا الامر هو خروجهم عن طورهم بعد ان شهدوا على «احتراق» عدد من العسكريين أمام أعينهم بسبب إشعال المساجين اسرّتهم واستخدامهم مواد حارقة أدت الى وقوع عدد كبير من الاصابات في صفوف العناصر المقتحمة.
وفيما وجّهت اتهامات مباشرة للعنصرين حبيب ج. وعصام ش. بالتعذيب والضرب، وعبدو ص. بالتصوير والتكتّم على ما حدث، وحارس الجناح رضوان ع. بالتكتّم وإخفاء المعلومات عن رؤسائه، فإن العنصر الخامس وهو مأمون ن. متّهم أيضا بالاستحصال على الشريطين من حبيب ج. وعدم إفادة رؤسائه بالموضوع. وبالتأكيد ووسط الصخب في المبنى «د» والقنابل الصوتية وأصوات الرصاص المطاطي، فقد كان متعذّرا بشكل كامل سماع أصوات المساجين «المعنّفين» او معرفة ما يحصل داخل الغرفة.