Site icon IMLebanon

«فيديو رومية» أو التعذيب كمطلب شعبي

لعله من محاسن الصدف أن تفصل أيام قليلة كشف فيديو تعذيب معتقلين إسلاميين في سجن رومية اللبناني، مع اليوم العالمي لمناهضة التعذيب (أمس، في 26 الجاري). فأي مثال أوضح عن انتهاك أبسط حقوق الإنسان من قبل مؤسسات رسمية لإحياء هذه الذكرى السنوية؟!

ولكن من السخرية المؤلمة أيضاً، أن يكون لبنان نفسه مسرحاً مزدوجاً لممارسات من هذا النوع باتت ممنهجة وممأسسة من جهة، مقابل عمل عدد غير قليل من منظمات المجتمع المدني المحلي والدولي، التي تستعد لإحياء هذا اليوم بفاعليات ونشاطات وتقارير وبيانات من جهة أخرى.

إنه توزيع غريب للأدوار والمهام، حيث يقوم الشرطي أو السجان أو المحقق، وهم كلهم ممثلون مباشرون للدولة، بعملهم في المخفر والسجن وغرفة التحقيق، فيضربون ويشتمون ويهينون إذا شاؤوا، فيما يقوم النشطاء في المقابل (ويفترض أنهم يمثلون المجتمع ومصالحه) بتنظيم اللقاءات في ما بينهم ودعوة الحقوقيين والصحافيين والجهات الممولة، لإطلاق نداءات استغاثة وتنديد غالباً ما لا تخترق سقف القاعة التي تجمعهم.

وعليه، وفيما تفيض قوة المحقق عن أجساد المعتقلين لتطال أسرهم وبيئاتهم الأوسع، تبقى الحملات المطالبة بالزجر والمحاسبة حبيسة دوائر اجتماعية ضيقة ونخبوية إلى حد بعيد. أما التيارات والأحزاب السياسية فتغيب أصلاً عن نقاش من هذا النوع، لتصب جهدها واهتمامها على كيفية استثماره.

والحال أن التعذيب والضرب وكيل الإهانات ليست حدثاً جديداً في السجون اللبنانية ومراكز الاحتجاز، ولا التوظيف السياسي والاستثمار الطائفي له كذلك. فالسجل القضائي حافل بممارسات قميئة من هذا النوع توجه ضد الأفراد أو المجموعات من دون أن يكون هناك في المقابل جهة ذات صلاحية أو نفوذ قادرة على محاسبة المقترفين ومن يقف وراءهم من السياسيين.

وتكفي عودة قصيرة بالزمن لنتذكر ما جرى مع الطلاب والشباب من العونيين وتيارات مسيحية أخرى نهاية التسعينات ومطلع الألفية. دخلت حينذاك إلى قواميس الجامعات والتجمعات السياسية الظليلة، تعابير «بلانكو» و«دولاب» و «شبح» وغيرها. ثم الأسوأ والأكثر فجاجة حدث مع أبناء المناطق السنية في طرابلس وغيرها، وتحديداً «خلية الضنية» التي مورس على أعضائها والمشتبه بانتمائهم إليها أسوأ أنواع التعذيب الجسدي والتهديد النفسي بالنيل من نسائهم. ولا ننسى في السياق اعتقال موقوفين إسلاميين لسنوات تقارب العشرة الآن من دون محاكمات ولا توجيه تهم بالإضافة إلى اعتداءات كثيرة ومتكررة على الفئات المستضعفة من عمال أجانب (لا سيما العاملات)، ومثليين، ولاجئين، وأحداث.

صحيح أن الزمن لم يكن زمن «يوتيوب» و «أشرطة مصورة» وفضائح إعلامية، لكن الأداء الأمني هو نفسه، والوصولية السياسية لم تتغير. ففيما لا يزال كثير من شبان تلك الحقبة يعانون كسوراً وجروحاً لم تندمل، جسدية ومعنوية، تبوأ زعماؤهم مواقع في السلطة بذريعتهم وذريعة أن حاضنتهم الشعبية محتقنة ومضطهدة، تماماً كما تعزز فضيحة «رومية» اليوم مواقع بعض السياسيين وتسهل عليهم تحديد سعر منافسيهم في بورصة المناصب المقبلة.

لذا، فإن كشف التعذيب مصوراً يفيد لجهة التوثيق والمحاسبة إن وجدت قنوات فعلية لها. أما القول إنه أطلعنا على ما كنا نجهله فغير دقيق، ولا يعدو إذّاك كونه فضيحة أخرى تضاف إلى فضائح كثيرة آخرها قضية ميشال سماحة.

وإذ يطيب لكثيرين نسب تلك الممارسات إلى زمن الوصاية السورية، وما أرسته «الأجهزة الأسدية» من أخلاقيات وسلوكيات في المؤسسات الأمنية اللبنانية، يبقى أن إلصاق البشاعة بـ «الغريب» هو مما اعتادته ثقافتنا عموماً، واطمأنت له لتخفف عن نفسها المسؤولية الأخلاقية عن هذا القبح. وصحيح أن الإرث الأسدي في لبنان لا يزال ثقيلاً وجاثماً على صدور لم تكشف عن كل مكنوناتها بعد، لكنّ كثيراً مما جرى ويجري، تم بأيدٍ لبنانية، ودوافع لبنانية ومباركة لبنانية أيضاً.

فالجديد الذي كشفه «فيديو رومية» وأتاحت مواقع التواصل الاجتماعي تظهيره، هو ذلك الشرخ المجتمعي العميق بين من يصطف إلى جانب ضحية ومن يقبل يد جلاد. ثمة أصوات كثيرة ارتفعت أخيراً تطالب بمزيد من الضرب و «الرمي للكلاب» واستهجنت إمكانية استفادة الموقوفين من القوانين و «شرائع حقوق الإنسان» فيما هم كانوا ليتنكروا لها.

ورأى كثيرون في ذلك الضرب عقاباً مقبولاً لا بل مخففاً، لمن كان سينفذ تفجيراً أو يحمل سلاحاً، من دون أدنى اعتبار لسير المحاكمات وكيفية تنفيذ العقوبات وتحديدها أو حتى لبداهة «براءة المتهم حتى تثبت إدانته».

واللافت أن أصحاب تلك النداءات ليسوا من جهة طائفية أو سياسية واحدة، بل إن «شيطنة» كل ذي لحية (سني تحديداً) وقبول اضطهاده، ولم لا تصفيته، اخترقت الطوائف اللبنانية والطبقات الاجتماعية وبعض الدوائر الثقافية. حتى بدا أي دفاع عن الموقوفين كأنه دفاع عن التطرف أو التشدد، وهو ما حصر المسألة في كونها «قضية السنة» عوضاً عن أن تكون قضية دفاع عن منظومة قيم وأداء مؤسسات. كشف الفيديو الأخير أنه ما عاد من أرضية أخلاقية أو إنسانية مشتركة تتفق حولها الجماعات وتختلف في ما عداها. ففيما لا يزال الاستثمار السياسي شغالاً، والجمعيات الأهلية تعقد المؤتمرات ولا تخترق قاع المجتمع، ينظر إلى التعذيب كمسألة نسبية، تخضع للنقاش والــرأي والرأي الآخر، ويتغير تقييمه وفق من يتلقى العصي ومن يعدها.

هذا باختصار أخطر ما كشفه فينا ذلك «الفيديو»، إذ أتاح لكثيرين منا جعل الانتهاك مطلباً شعبياً… وتحول الدولة ميليشا ضرورة وطنية.