استسلم بشار الأسد وسلّم ونظّم عملية هروبه بعد 24 عاماً على تبوّئه السلطة
قد يكون رئيس النظام السوري الأسبق حافظ الأسد الوحيد بين من تولّوا حكم سوريا الذي توفي بشكل طبيعي وهو في الحكم ودُفن في بلدته القرداحة في مدفن لا يُعرف مصيره بعد انهيار النظام الذي بناه منذ العام 1970 وولّاه بعده لابنه بشار الذي انتهى ككثيرين ممن سبقوه، إلى المنفى، أو السجن أو القبر.
أدرك بشار الأسد أن نهاية حكمه قد دنت فاتخذ قرار الانسحاب والاستسلام ونظّم في 8 كانون الأول عملية فراره من سوريا ولجوئه إلى روسيا. نجا من قبضة الانقلاب الذي شهدته سوريا على مراحل، ولكنه لن ينجو من حكم التاريخ. فالرجل الذي ورث عن أبيه نظاماً قوياً اعتقد أن هذا النظام وحده يؤمّن له قوة الاستمرار، ولكنّه فقد السيطرة على الحكم وأضاع فرصاً كثيرة أُعطيت له ليؤمّن انتقالاً سلساً للسلطة ويحقّق المشاركة في الحكم. الرجل الذي استند إلى دعائم نظامه والولاءات الشخصية وراهن بعد بداية الثورة في 15 آذار 2011 على دعم إيران و”حزب الله” ثم على الدعم الروسي منذ آخر أيلول 2015، أيقن أن أيامه في قصر المهاجرين الرئاسي باتت محدودة. ولذلك قرّر ألّا يقاوم. استسلم وسلّم ونظم عملية هروبه بعد 24 عاماً على تبوّئه السلطة في العام 2000.
مات باسل وحضر بشار
قبل وفاته في 10 حزيران من ذلك العام كان حافظ الأسد مدركاً أن نهايته اقتربت. نظّم عملية انتقال السلطة منذ العام 1990 لابنه باسل. ولكنّ مصرعه في حادث سيارة في كانون الأول 1994 بدّل في قواعد الوراثة. كان بشار يدرس في بريطانيا فاستُدعي إلى القصر ليبدأ التدرّج على وراثة الحكم. وهكذا بات هو القائد الفعلي للنظام منذ العام 1997. صحيح أنّ والده كان يحيط نفسه بكوكبة من الأسماء التي رافقته منذ العام 1969 إلا أنّه اختار لنفسه ولاءات جديدة وأسماء جديدة متخلّياً عمّن اعتبر أنّهم مجموعة من الخونة والمتآمرين حتى لو كانوا مقربين من والده، لأنّهم كانوا يتمتعون ببعض قوة الحضور والتأثير.
وعلى عكس ابنه لم يستسلم حافظ الأسد. وصل إلى الحكم بقوة السلاح وبالانقلاب على رفاقه، الذين لم يرحمهم، وتخلّص منهم بالقتل أو بالسجن أو بالنفي منذ بدأ مسيرته إلى السلطة بعد انقلاب “حزب البعث”، الذي انتمى إليه، في 8 آذار 1963. هكذا شارك في انقلاب 1966 على القيادة السياسية ثم على القيادة العسكرية في 16 تشرين الثاني 1970. خاض حرب 1973 وعلى رغم انهيار جيشه أمام الجيش الإسرائيلي الذي تجاوز الجولان نحو دمشق، لم يستسلم بل ذهب إلى توقيع اتفاق الهدنة في أيار 1974 منهياً الصراع العسكري مع إسرائيل ومكمّلاً برفع شعار العداء لها وسيلة للاستمرار في الحكم وقمع المعارضين. هكذا استطاع الأسد الأب أن يقوّي نظامه وفضّل التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية في عام 1976 لإدخال جيشه إلى لبنان مبتعداً عن الإتحاد السوفياتي. ولذلك عمد إلى استخدام العنف والقوة ضد كل معارضيه. قمع انتفاضة حماه عام 1980 ولم يرحم أهلها. ولم يستسلم عندما مرض عام 1983 واتّهم شقيقه رفعت، المتهم بارتكاب مجازر حماه، بأنّه كان يريد الانقلاب عليه. فأخرجه من القصر ونفاه إلى خارج سوريا التي لم يعد إليها إلا عام 2021 بموافقة بشار. ولا يعرف مصيره اليوم بعد سقوط النظام. هل ستحاكمه السلطة الجديدة أم سيتمكّن من الفرار مثل ابن أخيه؟
قبر الوالد ومنفى الإبن
لم يستسلم حافظ الأسد للمرض. منذ ذلك التاريخ كان يعرف أن مرضه لا شفاء منه ومع ذلك استمر في الحكم حتى وفاته في 10 حزيران 2000. منذ أواسط التسعينات بات يتصرّف وكأنه سيموت غداً. بنى قبره في القرداحة ليكون مزاراً وقد دُفِن فيه بحضور رسمي من دول كثيرة، بينما كان بشار منصرفاً إلى تنظيم عملية انتخابه وريثاً له. بعدما أسقطت الثورة تماثيله التي رفعت في أكثر من مدينة، لا يُعرف ما إذا كانت ستحافظ على هذا القبر أم ستعيد إخراجه من تحت التراب لمحاكمته.
اعتقد بشار أن حكمه لسوريا سيكون مؤبّداً وأن ابنه حافظ سيكون وريثه الوحيد بعد طول العمر. عندما خضع للقرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي وسحب جيشه من لبنان، أفصح أمام مقربين إليه أن معركته الآتية ستكون للدفاع عن نظامه في دمشق. في العام 2011 بدأت هذه المواجهة. خلال عامين فقط كاد نظامه أن يسقط بعدما سيطرت المعارضة على معظم المدن السورية وهدّدت بالدخول إلى دمشق قبل أن يبدأ المَدَد الإيراني دفاعا عنه حتى لا تنقطع طريق طهران بيروت. ومع ذلك بقي نظامه مهدّداً حتى أتت المعونة من روسيا عام 2015. منذ العام 2017 ومع انحسار القوى المعارضة في إدلب والمناطق الكردية اعتقد بشار أنّ نظامه نجا وتباهى أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله بأنه منع سقوطه، وأن المؤامرة الدولية عليه فشلت. ولكن بعد شهرين على نجاح إسرائيل في اغتيال نصرالله وبعد الهجمات التي شنّتها على مواقع “حزب الله” في لبنان وسوريا، وبعد ضعف الدعم الروسي والإيراني، شعر الأسد الإبن أنّ نهايته اقتربت وأن لا مجال للمقاومة فقرّر اللجوء إلى موسكو. النظام الروسي الذي عجز عن إنقاذ نظامه اكتفى بإنقاذ حياته. هناك يأمل الأسد الإبن في أن يتمكن من تمضية ما تبقى له من سنين. وهو يعرف أنه تلافى سلوك الطريق الذي قاد حكاماً كثيرين لسوريا قبله من القصر إلى القبر.
من حسني الزعيم إلى بشار
وحده الرئيس الأول شكري القوتلي نجا من انقلاب حسني الزعيم عليه عام 1949 وعاد بعد المنفى الطوعي إلى الرئاسة عام 1954 ليسلّم الرئاسة لجمال عبد الناصر بعد إعلان دولة الوحدة عام 1958. وقد عاش في المنفى قبل أن يموت في بيروت عام 1967. حسني الزعيم أُعدم بعد انقلاب قاده سامي الحناوي ضدّه. والحناوي أخرجه من الحكم انقلاب قاده العقيد أديب الشيشكلي عام 1950. وبعد اعتقاله أخرجه الشيشكلي من السجن فذهب إلى لبنان حيث اغتاله في 30 تشرين الأول 1950 حرشو البرازي في أحد شوارع بيروت انتقاماً لقريبه رئيس الوزراء محسن البرازي الذي أعدمه الحناوي مع الزعيم. الشيشكلي بدوره سمح له المنقلبون عليه عام 1954 بالتوجه إلى لبنان ثم انتقل إلى السعودية فالبرازيل حيث اغتاله نواف غزالة في 27 أيلول 1964 انتقاماً للمجازر التي ارتكبها ضد الدروز.
أمين الحافظ الذي تولّى السلطة بعد انقلاب البعث عام 1963 انتهى بانقلاب صلاح جديد وحافظ الأسد عليه عام 1966 وذهب إلى السجن قبل أن يطلق سراحه ويخرج من سوريا التي لم يعد إليها إلا عام 2003 بموافقة بشار. صلاح جديد أرسله حافظ الأسد عام 1970 مع الرئيس نور الدين الأتاسي الذي ولّاه الرئاسة عام 1966 إلى السجن ليمضيا معا بقية عمرهما هناك. جديد مات في السجن عام 1993 أما الأتاسي فقد أخرجه الأسد عام 1992 ليموت بعد أيام في أحد مستشفيات باريس.
ولد حافظ الأسد في 6 تشرين الأول 1930 وتولى السلطة عام 1970 واستمر في الحكم حتى وفاته في 10 حزيران عام 2000. وولد بشار الأسد في 11 أيلول 1965 وتولى الحكم في حزيران 2000. حكم مدة 24 عاماً ولكنه تخلّى مرغماً عن كل شيء لينتهي لاجئاً في موسكو. هو الذي تباهى دائماً أنه لم يخضع للشروط الأميركية ولم يتخلّ عن دوره في محور الممانعة ولم يتنازل عن قناعاته، صار منفياً متروكاً لقدره مقيماً في حقيبة سفر أعدّها على عجل تاركاً قصور الرئاسة وحكماً لم يعرف أن يحافظ عليه وربّما لن تتاح له فرصة العودة إلى سوريا ليرقد في المكان الذي رقد فيه والده.