حين قرّر الكرسي الرسولي الطلب من البطريرك نصرالله صفير التقاعد وإجراء اللازم لانتخاب بشارة الراعي بطريركاً، كانت ثمة نية لتنظيم البيت الكاثوليكي في الشرق ومكافحة الفساد والدفع في اتجاه لعب الكنيسة دوراً حيوياً في تثبيت المسيحيين في أرضهم واحتضان المهجرين. إلا أن ما حصل في السنوات الخمس الماضية يخيّب الآمال. هي خمس سنوات «عِجاف»
في عهد البطريرك نصرالله صفير، لم يرتفع صوت مطران واحد يسجل ملاحظة اعتراضية على رأس الكنيسة المارونية، رغم المآخذ الكثيرة. لم يكن أمام الأسقف الذي راسل الكرسي الرسولي مرة، مسجّلاً بعض الملاحظات على صفير، سوى عزل نفسه بنفسه في دير بعيد.
أما اليوم، فيتقاسم المطارنة غي نجيم وسليم نصار وأنطوان عنداري ومنير خيرالله قول ما لم يقله أحد لبطريرك من قبل، من حيث الجرأة والصراحة. كذلك علمت «الأخبار» أن 4 مطارنة بعثوا برسالة إلى الكرسي الرسولي، ضمّنوها ملاحظاتهم على أداء البطريرك بشارة الراعي. وأخيراً كتب راعي أبرشية صيدا المطران سليم نصار رسالة من 5 صفحات فنّد فيها مآخذه بلغة فرنسية بليغة. وقبل هذه وتلك، وصلت إلى روما رسالة من 10 مطارنة موارنة، يشكون فيها رأس كنيستهم.
أمام هذا كله، كان لافتاً إقدام الراعي في عظته الأخيرة، لمناسبة مرور 5 سنوات على تعيينه بطريركاً، على الاعتذار علانية من المطارنة «عن كل تقصير أو إساءة مباشرة أو غير مباشرة صدرت عنه».
وفي عهد صفير أيضاً، كان سيّد الصرح منحازاً إلى فريق سياسي ضد آخر، ولم تكن السلطة تتوانى عن تركيب مختلف أنواع الملفات لخصومها. لكن لم تخرج أيّ انتقادات جدية للبطريرك. أما في السنوات الخمس الأخيرة، فلا يكاد يمر أسبوع من دون فضيحة في مؤسسات وجمعيات كنسية. الهالة البطريركية لم تكسر في عهد صفير رغم كل شيء، فيما يقشعر البدن لما يحكى في بعض البيوت المتاخمة للصرح البطريركيّ هذه الأيام، علماً بأن الراعي «عُيّن» بطريركاً لمعالجة الخلل في المؤسسات الكنسيّة، انطلاقاً من بكركي، فيما أصبح الخلل في بكركي الآن. فلم يعد أحد يتحدث عن إدارة الوقف وغلاء التعليم والاستشفاء في المؤسسات التابعة للكنيسة وموقف بكركي السياسي، إنما يتحدثون عن بكركي. والمتحدثون ليسوا متآمرين على الكنيسة أو خصوماً سياسيين، بل أبناء الرعية أنفسهم.
يقول أحد المطارنة إن الكرسي الرسولي «أُتخِم» من جمع الشهادات وسماع وجهات النظر، وتكفيه المقارنة بين سجل الزوار للبطريرك المتقاعد وسجل زوار الراعي، والمقارنة بين من حجّوا إلى بكركي في آخر عيد فصح كان صفير فيه على رأس الكنيسة، والمصلين في الصرح في العيد الأخير. وبالتالي، هناك أولاً أزمة في نظرة أبناء الرعية إلى سيّد الصرح داخل مجمع المطارنة وخارجه. وهي أزمة تؤثر في مهمته المفترضة. أما الأزمة الرئيسية الثانية فتتعلق بالتعيينات التي باشرها فور وصوله. فأساس الإصلاح الإداري الموعود كان يفترض أن يكون المطران جوزف معوض الذي عيّنه الراعي نائباً بطريركياً للشؤون الإدارية. إلا أن معوض عجز خلال عامين عن التقدم خطوة إلى الأمام، وبات أشبه بسجين في الإقامة الجبرية حتى شغر الكرسي الأول في أبرشية زحلة، فوجدها مناسبة للخلاص من «معاونة البطريرك في الشؤون الإدارية». ويشير أحد المطارنة في هذا السياق إلى أن البطريرك يتعامل مع إنشاء الأمانة العامة للبطريركية ووضع أنظمة داخلية للمؤسسات الكنسية باعتبارها إنجازات، فيما نسخ النصوص القانونية وتعديلها قليلاً لتتناغم مع القوانين اللبنانية في غاية السهولة، والتحدي يكمن في تنفيذها والالتزام بها. والتعيين الثاني من حيث الأهمية هو النائب البطريركي للشؤون القانونية والمحاكم المطران حنا علوان الذي أحضر من روما ليعيّن نائباً بطريركياً. إلا أن الشكاوى من المحاكم الروحية بلغت في عهده ما لم تبلغه يوماً. وبات لا يخلو برنامج تلفزيوني من محطة شهرية في هذه المحاكم.
وصلت إلى روما 3 رسائل
من 15 مطراناً يشكون فيها أداء البطريرك الراعي
ورغم المساعي الفاتيكانية للتحديث وإيقاف الفساد العابر للبلدان في ملف المحاكم الروحية، لم تُسجّل خلال 5 سنوات أيّ خطوة إلى الأمام من جانب بكركي. لا بل كان لافتاً نقل علوان لمكتبه من الطابق الأرضي حيث يمكنه مراقبة ما يحصل عن كثب إلى الطابق الثالث حيث يلتقي من يشاء ساعة يشاء. أما النائب البطريركي الآخر بولس الصياح الذي سيحال على التقاعد في حزيران المقبل، فتقتصر إنجازاته على إقناع البطريرك بزيارة القدس المحتلة. وأبرز تعيينات العهد الجديد كان في كاريتاس، حيث عيّن الراعي الأب سيمون فضول رئيساً لها، لكن لم يكد يمر عامان حتى دوّت الفضيحة الشهيرة. الراعي لم يعزل فضول أو يؤجّل تكليفه بمهمات أخرى في انتظار نتائج التحقيق الشفاف، بل عيّنه مسؤولاً عن أفريقيا الوسطى والغربية وزائراً رسولياً لموارنة أفريقيا الجنوبية. وكان يفترض بالراعي أن يجري كل الاستقصاءات بشأن المطران ورعيته المفترضة قبل تعيين أي مطران، إلا أن ذلك لم يحصل. فما كاد يعيّن الياس سليمان مطراناً على اللاذقية، ويدافع عن قراره بوصفه إلهاماً إلهياً، حتى غيّر رأيه. لكنه لم يعلّق مهمات سليمان، بل نقله على عجل من اللاذقية إلى رئاسة محكمة الاستئناف في المحكمة الروحية. فمن لا يصلح لإدارة مطرانية، يصلح وفق الراعي لإدارة محكمة روحية. أما الأب نبيه الترس الذي عُيّن أميناً لسرّ البطريرك، فلم يلبث أن تقدم بنفسه باستقالته بعدما ثبتت له استحالة القيام بمهمة روتينية صغيرة مثل ترتيب أجندة مواعيد البطريرك ولقاءاته، فعيّن على عجل مسؤولاً عن رعية صغيرة في الأردن. وكان الراعي قد اعتقد أن تعيين المطران فرنسوا عيد معتمداً بطريركاً لدى الكرسي الرسولي ورئيساً للمعهد الماروني الحبري في روما سيريحه منه، معتبراً أن لا كلمة تعلو كلمة صديقه الكاردينال ساندري في روما، إلا أن عيد لا يكلّ أو يملّ، مستفيداً من تراجع نفوذ ساندري جراء نقمة البابا على رجال الدين المستزلمين لرجال الأعمال.
وهذا يقود إلى الفشل الثالث المتمثل في غياب الانجازات؛ ففي احتفاليته بمرور خمس سنوات على انتخابه بطريركاً، كان الكرسي الرسولي ينتظر ملفاً تُفصّل فيه جداول الشقق السكنية التي وضعتها بكركي في تصرف الشباب الماروني بأسعار زهيدة، والقروض المدعومة التي وفّرتها لهؤلاء من أجل الانطلاق بمشاريع زراعية وصناعية وسياحية صغيرة، وفرص العمل التي وفّرها الصرح وحجم التخفيضات التي طالت أقساط المدارس الكاثوليكية وفاتورة المستشفيات وغيرها. لكن ما سمعه الفاتيكان واللبنانيون لم يكن سوى حديث عن اللجان التي استحدثت، وآخر عن «تثبيت القوانين وتجديد الهيكلية».
وفي الجردة البطريركية لمناسبة مرور السنوات الخمس، بند مهم آخر يتعلق بعلاقة البطريركية بالرهبانيات. فبُعيد انتخاب الراعي، أجريت انتخابات في جميع الرهبانيات المارونية كان يفترض أن توفر دماً جديداً يلاقي الراعي في منتصف الطريق، خصوصاً أن خلفية الراعي رهبانية، فيما اتُّهم صفير سابقاً بعدم ودّه الكبير للرهبانيات ومحاصرته لها حفاظاً على أحادية المرجعية البطريركية. لكن لا الراعي زحزح بكركي من مكانها ولا الرهبانيات خطت خطوة باتجاه الصرح. وما زال الطرفان يكتفيان بالتنسيق الشكلي.
هكذا تحول «الفاتيكان الصغير» إلى شبيه بمؤسّسات الطوائف الأخرى؛ فتأثير بكركي السياسي أيام صفير كان أكبر ممّا هو عليه اليوم، فيما فعاليتها الاجتماعية والاقتصادية تلك الأيام موازية لفعاليتها اليوم إن لم تكن أفضل بقليل. الأمر شبه الوحيد الذي تغيّر هو مصاريف الصرح. ففي زمن صفير كان ثمة دفتر عتيق تسجل عليه المصاريف وجارور صغير تودع فيه الأموال وتسحب منه. أما اليوم فهناك ميزانية هائلة لعشرات اللجان ودراسات تذهب وتجيء وبطريركية تَهدي وتُهدى، علماً بأن الراعي عدّد زياراته لـ»جميع أبرشياتنا في لبنان والشرق الأوسط وبلدان الانتشار» ضمن الإنجازات، مطمئناً المشتاقين إليه إلى أنه سينطلق قريباً في جولة جديدة. فهذا وفق قوله «واجب تمليه القوانين الكنسية على البطريرك ليقوم به كلّ خمس سنوات».