Site icon IMLebanon

الحزب الحاكم

كَثُر الكلام بعد معركة جرود عرسال عن دور «حزب الله» المتعاظم ودور الدولة اللبنانية المتراجع نتيجة عدم قيام الجيش اللبناني بطرد المسلحين المتطرفين من الجرود، وتخلي الدولة عن مسؤولياتها في تحرير أرضها وحماية حدودها، وتركها هذه المهمة إلى ميليشيا مذهبية تنفذ أجندة إقليمية، الأمر الذي نال من هيبتها وكرامتها وكرامة شعبها وجيشها.

ويطالب اللبنانيون المؤمنون بالدولة والمتمسكون بالسيادة بأن تكون حماية الوطن من الاعتداءات الخارجية والداخلية والحفاظ على حدوده، من مسؤوليات الجيش وحده. ويرفضون ادعاء البعض بعدم قدرة الجيش وعدم امتلاكه السلاح اللازم للقيام بهذه المهمات من أجل تجييرها إلى ميليشيا «حزب الله». كما يعترضون على تغطية الدولة لسلاح الحزب الذي لم يعد سلاحاً مقاوماً بعد القرار 1701 وتحوله إلى الداخل اللبناني وإلى سوريا للقتال إلى جانب نظام رئيسها بشار الأسد، والمساهمة في تنفيذ المشروع الإيراني في إقامة الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى شواطىء البحر الأبيض المتوسط مروراً بالعراق وسوريا.

لقد اتخذ «حزب الله» قرار طرد المسلحين التابعين لـ«جبهة النصرة» المتواجدين في جرود عرسال بالتنسيق مع الضلعين الآخرين في محور ما يسمى بـ«محور الممانعة»، وفرض أجندته في معركة الجرود، وورط الجيش اللبناني ليكون دوره مكملاً لمهمة تقع على عاتقه، مؤكداً بذلك بأنه هو وليس الدولة صاحب قرار الحرب والسلم في لبنان، تاركاً للدولة أن تتحمّل تداعيات قراره ومعالجة تبعاته.

وكان الهدف الرئيس لـ«حزب الله» من معركة الجرود تنفيذ المخطط الإيراني – السوري بربط المناطق اللبنانية الواقعة على الحدود وذات الغالبية الشيعية بمناطق النظام السوري أو «سوريا المفيدة» وتنقيتها من العنصر السنّي. وتضمّن الاتفاق/الصفقة، الذي أنهى المعركة وشاركت فيه دول إقليمية مؤثرة، ترحيل مجموعات «جبهة النصرة» مع عائلاتهم وآلاف السوريين النازحين من بلدات القلمون والقصير إلى شمال سوريا، ما يعتبر متمماً للفرز السكاني الذي جرى منذ أشهر عدة وتم فيه تهجير سكان بلدتي الزبداني ومضايا السنّة إلى ماطق سنّية خارج حدود الدولة المفيدة. وهي تغييرات ديموغرافية جذرية في مناطق سنّية تحيط بدمشق. ويجري حالياً في هذه المناطق إحلال سكان علويين وشيعة مكان السكان السنّة المرحّلين، ما يعزز الوجود العلوي والشيعي في «سوريا المفيدة» الممتدة من دمشق إلى اللاذقية.

واستخدم «حزب الله» في معركة الجرود سياسة إعلامية ذكية، وضغوط نفسية مؤثرة، وآلاف المقاتلين المجهزين بأحدث الأسلحة لم تكن الوقائع السائدة يومها في الجرود تتطلب هذا الكم الكبير من المقاتلين، إذ أن مسلحي «جبهة النصرة» كانوا حوالى المئتين ومجهزين بأسلحة خفيفة ومتوسطة ومحاصرين لمدة ثلاث سنوات.

واستطاع الحزب تحقيق مكاسب كبيرة إعلامية وسياسية وميدانية من المعركة، منها: التباهي بقوة مقاتليه وكفاءتهم، وفرضه توقيت معركة الجرود وإخضاع الدولة بمؤسّساتها العسكرية والسياسية الرسمية لأجندته، والمثير للأسى استيعاب الحزب للجيش اللبناني من ضمن استراتيجيته من خلال قيام الجيش بدور اللاعب المكمل لمهمة الحزب والداعم له في معركة هي في الأساس من صلب مسؤولياته، وإظهار حرصه على حماية الداخل اللبناني من الإرهابيين، وتحريره الأرض من المسلحين المتطرفين، وإعادة جثامين عناصره واستعادة أسراه لدى «جبهة النصرة»، وتبدل المزاج المسيحي تجاهه وتجاه راعيته إيران باعتباره حامياً للمسيحيين تمّ التعبير عنه بمشاهد التسابق على الإشادة به والتأييد له في شكل معلن من شخصيات وأحزاب وهيئات مسيحية ومن وسائل الإعلام التابعة لهم في شكل صارخ، ما يوحي بانضمام غالبية المسيحيين في «تحالف الأقليات» الذي يخدم أهداف إيران في المنطقة. في المقابل لم تكن خسائر «جبهة النصرة» في معركة غير متكافئة في العدد والعتاد كبيرة.

والمعلوم أنه تم تحرير أسرى الحزب من خلال الصفقة التي كان من ضمنها إطلاق الدولة لسراح عدد من الموقوفين لديها بتهمة الإرهاب، والمستهجن في الأمر قبول الحزب بما كان قد رفضه من قبل في سبيل الإفراج عن عناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي المحتجزين لدى الجبهة و«تنظيم داعش». وهذا دليل آخر على أن الحزب هو من يحدد أجندة عمل المؤسّسات اللبنانية.

وما كان هذا الحجم المتسع للحزب ولتعاظم دوره وهيمنته على مقدرات الدولة ورسم خريطة الطريق لها ولمؤسّساتها وعلاقاتها الخارجية ليتحقق إلى هذا المدى لولا غياب المعارضة الوطنية الحقيقية لمشروعه، واستسلام كل القوى السياسية وانكفائها واكتفاء المسؤولين الرسميين بإدارة الشؤون اليومية للدولة، و»ربط النزاع» معه من قبل قوى معارضة له، والغطاء الرسمي الذي يحظى به من حليفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي بقي على دفاعه ودعمه للحزب بعد توليه سدة الرئاسة. ونذكر في هذا المجال موقفه من سلاح الحزب قبل زيارته القاهرة بأنه «ضروري ومكمل لسلاح الجيش»، ولا يزال هذا الموقف عنواناً لمسار الدولة إزاء الحزب، ولو كان ثمنه انزعاج خارجي من الرئاسة الأولى.

وأثار موقف الدولة اللبنانية المتراخي والمستسلم لـ»حزب الله» استياءً وغضباً في الداخل اللبناني لدى القوى السيادية، وفي الخارج وخصوصاً في دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، حيث يثير الحزب الاضطرابات والفتن فيها ولا يتوقف عن مهاجمة قياداتها، وتورطه في «خلية العبدلي» في الكويت خير مثال على ذلك. وتلوح في الأفق بعض ردود الفعل السلبية لهذه الدول تجاه لبنان قد تطاول القطاع المالي بسحب الودائع من المصرف المركزي، ومنع رعاياها من المجيء إلى لبنان والاستثمار فيه، وخفض التمثيل الديبلوماسي معه، وبمعنى آخر مقاطعة لبنان إلى حد كبير. هذا إضافة إلى النسخة الثانية من العقوبات الأميركية ضد الحزب ومناصريه والمتعاملين معه المتوقع صدورها قريباَ، بما سيؤثر حتماً على الوضعين الاقتصادي والمالي في لبنان.

وختاماً، تشير هذه الوقائع وغيرها إلى أن «حزب الله» هو الحاكم الفعلي للدولة، من فرضه عون رئيساً للجمهورية، وعدم ممانعته من عودة الرئيس سعد الحريري إلى السرايا الحكومية، وسيطرته على إدارات الدولة ومؤسّساتها وقرارها الوطني، وإنتاج قانون انتخابات نيابية يؤمن له ولحلفائه الهيمنة على مجلس النواب المقبل، واستباحته الحدود اللبنانية – السورية الشرقية بمقاتليه وآلياته العسكرية، وفرض أجندته في تحرير جرود عرسال. ويحاول الحزب استثمار «انتصاره» في إحياء علاقات التطبيع مع النظام السوري بهدف تعويمه وكسر المقاطعة العربية له، وتأتي في هذا السياق الزيارات المرتقبة لعدد من الوزراء اللبنانيين إلى دمشق، وهي خطوة تساهم في ربط لبنان بمحور طهران.