IMLebanon

قصّة حيّ سكني في منطقة الرميل

 

هبة يابانية ترممه والأهالي “على نار”

 

…وأنتم تتجهون صعوداً من منطقة مار مخايل في اتجاه منطقة الرميل، وقبل وصولكم الى مستشفى القديس جاورجيوس بقليل، وبعد ذاك المبنى الذي سقط على ثلاثة أشخاص، من ضحايا انفجار مرفأ بيروت، وبالقرب من محل ورود وضّب صاحبه ما سلِم فيه وغادر الى زاوية ما، في مكان ما، ليس فيه كل هذا الذلّ والقهر والقرف والموت وهدم البيوت فوق الرؤوس… هناك، بالقرب من كل تلك التفاصيل، ستلمحون آرمة وراءها حيّ، فيه كثير من الركام، وهو الآن، لمن يهمه الأمر، في غرفة الإنعاش.

 

نقف الى جانب الآرمة ونقرأ في قواعد السلامة العامة: ضع خوذة الأمان، إنتعل حذاء الأمان، ابتعد عن الحفر والخنادق، حافظ على مسافة آمنة مع الآخرين… نتابع القراءة ونحن نعبر الى داخل «تجمّع» فيه حزن كثير وفرح كبير. ثمة مشاعر تتضارب في المكان. ففي كل مبنى قصة بصيغة الماضي وأخرى بصيغة الحاضر. شباب وصبايا برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان UN Habitat وجمعية live love Lebanon يملكون زخماً هائلا يضفي كثيراً من التفاؤل على كل التفاصيل، من سيَر ذاتية لأهالي هربوا من المكان خشية أن تسقط حجارة بيوتهم فوق رؤوسهم، وعن جيران عمْر وعن أدراج وسلالم تربط الحيّ «التحتاني» بالحيّ «الفوقاني». هذا المكان يُشبه بتفاصيله القديمة كل منطقة الأشرفية الحقيقية، الأشرفية الراسخة في ذاكرة الكثيرين.

 

ستعود إليها الحياة

فُجّرت بيروت عصر الرابع من آب، وصباح الخامس منه نزل شباب برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان UN Habitat الى بلدية بيروت للمساعدة في مسح الأضرار الهائلة. كان العاملون في البلدية يجرون المسح بطريقة تقليدية. لذا، كان لا بُدّ من الإستعانة بنظام معلوماتي يحفظ المعلومات ويُحدد المباني التي جرى الكشف عليها وحجم أضرار كل مبنى. وقد شمل المسح الأولي 20 ألف مبنى في بيروت. والمعلومات التي جمعها برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان إستندت إليها مؤسسات وجمعيات عديدة.

 

ليست هذه طبعا كل القصّة. فبعيداً عن الأوراق والمستندات، نلمح عيوناً شاخصة، الى هياكل البيت والرزق المشلع والعمر «المنسوف»، ننظر إليها فنحار فيها: فهل هي يائسة حتى النخاع أم مجبولة بأمل وفق قاعدة «ولولا فسحة الأمل»؟ هناك، في المكان المخلّع، الذي يعاد بناؤه حجراً حجراً وزاوية زاوية، أهالٍ تليق بهم بالطبع الحياة. في هذا المكان بالذات ورشة عمل. فما حكايتها؟

 

مدير وحدة التخطيط والتصميم الحضري في برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان المهندس ايلي منصور يُشرف على أعمال إعادة «ضخّ الحياة» في 11 مبنى شملتها هبة يابانية، وفي التفاصيل يقول منصور «أبدت السفارة اليابانية رغبتها في ترميم هذا الحيّ ومبانيه الأكثر تضرراً. فقام البرنامج بالشراكة مع live love Lebanon ب ترميم هذا المكان. وحصلنا على موافقة من المالكين جميعاً وعلى الخرائط والافادات العقارية وبدأنا العمل».

 

ماذا أظهر المسح الذي جرى؟

 

قبل أن يجيب المهندس تتدخل المواطنة حياة بشارة التي ولدت هنا وتزوجت هنا واليوم الذي لم تكن تزور فيه بيت اهلها هنا كانت تعتبره ضائعاً. تقول: «طلعت من بيتنا عروس، واتذكر يوم رشّ الجيران عليّ الرز والورد. أتذكر بيت ريشا وسعد وصليبا والشماس ومجدلاني ومنيّر. وأتذكر زوجة شقيقي التي قتلت في التفجير في 4 آب…». يتابع المهندس منصور الكلام من حيث انتهت «نحن نعي جداً القيمة المعنوية التي يوليها السكان لهذه المنطقة ولهذا المكان. فليس أصعب من أن يُقتلع ابن الاشرفية او الجميزة او الجعيتاوي او الرميل او الكرنتينا وكل لبنان من بيته وشارعه وتاريخه. لهذا نحن حريصون اليوم على إشراك أهالي هذه البقعة، المشكلة من 11 مبنى، تضم أكثر من 25 عائلة، بكل تفاصيل الترميم واعادة البناء. ويستطرد بالقول: «اصغر مبنى في المكان يزيد عمره عن ستين عاماً. وكثير من المالكين لم يهتموا طوال كل تلك العقود بأعمال الصيانة، وأتى التفجير ليُحدث الدمار الكبير. لذا، نحن نريد إعادة تلك المباني ليس فقط مثلما كانت بل أفضل مما كانت. قبلاً كانت مياه المطر والمياه المبتذلة تمرّ في قسطل واحد. الآن فصلنا بينها كي نستفيد من مياه المطر. ونعمل بعد الانتهاء من البناء على تجهيز المباني بالتمديدات اللازمة لتركيب الطاقة الشمسية ونحفظ في كل بيت نعيد ترميمه مكانا خاصا لذلك. نريد ان يستعيد الاهالي بيوتهم وذكرياتهم وكرامتهم».

 

من يعرف مناطق مار مخايل والجعتاوي والرميل والجميزة يعرف أنها مليئة بالأدراج التي تنقل السكان من حيّ الى ثانٍ الى ثالث… وفي هذا الاطار يقول المهندس «اخذنا مساحة من مساحة الدرج في سبيل تحويلها الى معبر تسير عليها الكراسي المتحركة ويستخدمها كبار السنّ إذا أحبوا. لحظنا كل التفاصيل وصممنا المباني من جديد كي تقاوم الزلازل. هنا نشير الى ان التفجير كان شبيهاً بهزة ارضية لكن من صنيعة البشر.

 

المالكون والسكان يروحون ويجيئون الى الحيّ الذي يستعيد شيئا فشيئا الحياة. ثمة ابريق ملون صامد على احدى الشرفات. ثمة صور قديسين وقديسات ما زالت صامدة على جدران شلعها التفجير. نمشي في المكان بعد أن وضعنا الخوذ الحامية. كل شيء منظم. أحد عشر شخصا ماتوا، او بالاصح قتلوا، هنا. كلما تذكرنا ذلك شعرنا اكثر برائحة الموت وبأن «دولتنا هي التي فعلت ذلك». ثمة منحدرات كثيرة. ننزل على السلالم ونمشي بين البيوت والمباني. لكل بيت قصّة عاشها السكان في تلك اللحظة المروعة. ثمة آرمة ترحيبية كتب عليها: welcome to the Rmeil Cluster. نقرأ في ارقام العقارات: 710 و712 و713… يخبرنا احدهم: هنا، في هذا المكان، وجدنا شخصا حياً بعد مرور ايام كثيرة.

 

كان يتنفس من ثقب من تحت الركام. وهناك في العقار 710 مات إبنهم. 25 عائلة كانت هنا. نمشي بين الركام، نمشي على ما تبقى من بلاط موزاييك، مخطط، مقلّم، وملون، أشبه برسومات طالما اشتهرت بها بيوت بيروت. نلمح بقايا قناطر. ونرى مجموعات من عمال البناء. السماء تُمطر. وهياكل ودعامات بلاستيكية كبيرة وصلت للتو من إيطاليا ستُشكل سنداً منيعا لمباني الحيّ ضدّ أي زلزال قد يحلّ مستقبلا. الكهرباء، «الصحيّة»، الحجارة الرملية، الأبواب الخشبية… بحص ورمل… كل شيء بات جاهزاً لإنجاز الأعمال بعد أشهر قليلة وعودة السكان الى بيوتهم. هنا بيت الأشقر. تردد إمرأة تزور بيتها. ثمة لحمة إجتماعية في الأحياء القديمة لا يفهم معناها كثير من البشر. هنا كان بيت خديج في العقار رقم 713. على العقار رقم 712 كانت تسكن أربع عائلات وهو متضرر جداً. مساحات خضراء عديدة لحظها المشروع الجديد.

 

ها قد مضى نحو ثمانية عشر شهراً على انفجار مرفأ بيروت. الوقتُ يمرّ سريعاً أحياناً، وبطيئاً مملاً مجبولاً بالوجع في أحيان أخرى. هناك، في هذا الحيّ الذي شملته الرعاية اليابانية، تضارب في الشارع بين الملل والألم والأمل. ها هي إبتسام تقف على أعلى الدرج، على الطريق العام، تتلفّت يميناً ويساراً كمن يبحث عن شخص، عن شيء، عن أفق. إبتسام غادرت هذا الحيّ قبل 500 يوم تقريبا، أكثر قليلا أقل قليلا، هي لم تعدْ تحسب الأيام منذ تلك اللحظة التي جُمّد فيها التاريخ وتوقفت عقارب الوقت. تنزل إبتسام الى المكان. 17 درجة. ترتدي قبعة الأمان. تقف أمام منزلها الذي يعاد تشييده. تركع. تصلي. تبتسم وتغادر. هذه هي حالها منذ عشية الرابع من آب ذاك. فهناك، في صدر الباحة المشلعة، صورة للقديسة تريزيا حمت أسرتها. ثمة في المكان كثير من الحب والمحبة والإلفة والتضامن. سكان ذاك الحيّ في الرميل ينتظرون على نار ساعة العودة. فلكلِ أسى نهاية.