يبدو أن سمة المنطقة هذه الأيام هي السرعة إن لم يكن التسرّع، سرعة تلازم مواقف وممارسات الأطراف المنخرطة مباشرةً في قضايا الإقليم، وهي روسيا وإسرائيل وإيران بخاصة كما باقي الجهات إنما بوتيرة مختلفة.
خلال أيام قليلة، أطلقت روسيا مبادرتين على لسان وزير خارجيتها المخضرم سيرغي لافروف. اقترحت الأولى على إسرائيل إبلاغها بالتهديدات الأمنية الإيرانية المفترضة عليها من سوريا لتتكفل بمعالجتها كي لا تكون سوريا ساحة للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية الشاملة. وتضمنت الأخرى دعوة لعقد مؤتمر الربيع المقبل في موسكو لبحث إطلاق عملية السلام، يكون على مستوى وزراء خارجية دول الرباعية الدولية (روسيا، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة) إضافة إلى مصر والأردن والسعودية والإمارات والبحرين وإسرائيل والفلسطينيين.
يضاف إلى ذلك التسريب غير البريء في هذا التوقيت بالذات لخبر يشكَّك في صحته بشأن لقاء سوري إسرائيلي روسي عُقد في قاعدة حميميم.
وبهاتين المبادرتين، خصوصاً الدعوة إلى مؤتمر «الرباعية الدولية»، تكون روسيا قد فعّلت حراكها الدبلوماسي الذي بدأته قبل اتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بنظيره الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي، ما يدفعنا إلى قراءة هذا الحراك من باب رغبة روسيا الواضحة في دور جديد لها، أو تفعيل دور قديم، يواكب الإدارة الأميركية الجديدة، ويكسر حلقة الجمود التي أصابت دبلوماسيتها لا سيما في سوريا وفشلها في لجم التوتر الإسرائيلي الإيراني المتصاعد على الحدود وفوق الأراضي السورية.
كما أن الدور الروسي في التوصل إلى تسوية للنزاع في سوريا يدور في حلقة مفرغة أيضاً جراء تعثر الإصلاح، على الرغم من معاودة لاجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف غير الواعدة، بدليل أنها لم تسفر عن أي نتيجة، ما يؤكد ما عبّر عنه المندوب الأممي غير بيدرسن بحديثه عن هشاشة الوضع في سوريا. وجُلّ ما يطرح مباشرةً ومداورة هو التجديد لبشار الأسد في انتخابات رئاسية قادمة على أساس الدستور الحالي.
وأيضاً، يشكل غياب ملامح أي مشروع لإعادة الإعمار في سوريا أو الحديث الجدي عن عودة المهجّرين فشلاً ذريعاً لروسيا التي ستعاود إحياء اجتماعات آستانة أواخر فبراير (شباط) الحالي.
في مقلب آخر، نشهد حركة إسرائيلية غير معهودة بسرعتها، وبتوصيف أكثر دقة وعي متجدد للقيادة الإسرائيلية للأدوار الإيرانية التخريبية في المنطقة على أكثر من صعيد، سواء هَمّ الملف النووي القديم الجديد أو الهموم المتجددة والمتصاعدة جراء تمدد إيران وحلفائها ووكلائها مع أسلحتهم المحدَّثة باستمرار على الحدود الشمالية في لبنان كما في سوريا.
ليس من مجال للتباين بشأن يقظة إسرائيلية لمعالجة الوجود الإيراني في سوريا. وقد تُرجمت هذه اليقظة في عمليات عسكرية مكثفة ضد مواقع إيرانية بوتيرة لم نشهد مثيلاً لها، وتوّجت الأسبوع الماضي بتحركات وحشود عسكرية على جبهة الجولان.
اليقظة الإسرائيلية هذه متعددة الأسباب، لعل أبرزها اليقين بفشل الوعود الروسية بإبعاد إيران عن حدودها والخيبة الخبيثة من قدرة نظام الأسد على لجم التمدد الإيراني في بلاده، وهو الذي يعتمد على الحليف الإيراني للسيطرة المزعومة على 80% من الأراضي السورية. فإذا صحّت هذه السيطرة فهي حصلت بفضل الإيرانيين الموجودين على الأرض، أكثر منها بفضل موسكو التي اختصرت دورها في دعم النظام باستعمال سلاح الطيران من جهة، والدعم الدبلوماسي من جهة أخرى.
وإسرائيل المقبلة على انتخابات غير محسومة، مسرعة أيضاً بسبب قلق مزمن ينتابها بدأ مع ولاية باراك أوباما الأولى، واستعر في الثانية مع توقيع الاتفاق النووي عام 2015 في ظل امتعاض إسرائيلي وبرودة في العلاقات بين تل أبيب وواشنطن.
القلق الإسرائيلي هذا تجدد مع وصول بايدن وانطفاء سياسات دونالد ترمب بحيث باتت مضطرة وبعجالة واضحة لأن تعبر للإدارة الجديدة عن خشيتين؛ الأولى هي العودة إلى الاتفاق النووي كما وُقع عام 2015 ورفع العقوبات، والأخرى لا تقل أهمية عن الأولى وإن لم تكن بحجمها وتتعلق بالصواريخ الباليستية الإيرانية وأدوار حلفاء وأذرع إيران في المنطقة لا سيما على حدود إسرائيل الشمالية.
وما يزيد من الخشية الإسرائيلية هي المتغيّرات في الداخل الأميركي على أكثر من صعيد، بدءاً من الانشغال الكبير بمعالجة جائحة «كورونا» كما بالأزمة السياسية الداخلية الحادة إثر الانتخابات الرئاسية ومحاولة الاعتداء على الكابيتول. هذا الانشغال لا يخفي أيضاً بوادر متغيرات في مواقف اليسار الأميركي من إسرائيل، من دون أن يعني ذلك بتاتاً التفريط في أمنها والتغاضي عن ردع كل ما من شأنه أن يهدد وجودها. وينبغي أيضاً الأخذ في الاعتبار مواقف يسار الوسط الديمقراطي بالنسبة للمنطقة ككل والمتمثلة في خفوت الاهتمام بالشرق الأوسط بعامة جراء هموم أميركية رئيسية تبدأ من الصين إلى روسيا وإيران وصولاً إلى الاقتصاد.
هذه المتغيرات تشكل مصادر قلق لإسرائيل لأنها قد تخفض حرارة الدعم الأميركي لها، على الرغم من صلابة العلاقات بين البلدين والتي تعد بنيوية واستراتيجية لواشنطن. هذه المشهدية قد تحث إسرائيل على تنفيذ عمليات قد تنزلق معها إلى مواجهة كبيرة أو محدودة في المنطقة غير محسومة النتائج.
يبقى الطرف الثالث، أي إيران، التي لم تتوقف عن عراضاتها العسكرية وتصريحاتها المستفزّة واعتداءاتها عبر وكلائها من اليمن إلى بيروت. طبعاً تعيش إيران ضغوطاً متعددة الجوانب في الاقتصاد والصحة والاجتماع والسياسة. ومهما بلغت العنجهية الإيرانية المغلّفة بالمناورات العسكرية المتكررة، فهي لن تخفي رغبة إيران في تغيير الأوضاع وبأسرع السبل. فهي لم تنتظر وصول الإدارة الأميركية الجديدة لتوجّه إليها الرسائل المباشرة وغير المباشرة في حراك يدل على التعب من الأوضاع الحالية بدءاً من الداخل المثقل بجائحة «كورونا» وتداعيات العقوبات الاقتصادية والاجتماعية، والمقبل على انتخابات وسط توقع عودة الاحتجاجات الشعبية وإلقاء الجناح المتشدد بثقله لتأتي النتائج لصالحه. كذلك أحوال الأذرع والحلفاء، بحيث بات التذكير بالرفض الشعبي الذي تواجهه في العراق ولبنان والهجمات التي تتعرض لها في سوريا يشبه الأسطوانة المشروخة. وأصدق مَن عبّر عن الانسداد في السياسة الإيرانية المقالة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في مجلة «فورين أفيرز» والذي لم يخرج فيها عن إطار مرسوم لخشبية رؤية إيران ودبلوماسيتها الممجوجة.
ولا يكتمل المشهد بدون معرفة ما تسعى إليه روسيا وما إذا كان هناك متغيّر جدي في العلاقات بين موسكو وواشنطن. هل المتغيّر هو وجود رغبة أميركية في دور روسي فاعل أكثر في الإقليم؟ هل هو قدرة روسيا على لعب دور إيجابي في المنطقة لا سيما في المشرق، أي العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، من دون معالجة التشدد الآيديولوجي الإيراني المنتشر عبر حلفاء إيران وميليشياتها وأذرعها المحلية في أكثر من دولة؟ هل هو إقلاع روسيا عن رغبتها القديمة والمتجددة في إخراج الأميركيين من المنطقة بما يسمح بتحقيق المتغيّرين الأول والثاني إذا صحّا؟
لعل الإجابة الحاسمة متعذّرة، لكن الأرجح أن أي تغيير في العلاقات الروسية الأميركية سابق لأوانه، وستبقى سيناريوهات الحلول لأزمات المنطقة هشّة من دون انخراط أميركي يتصدى لثلاث معضلات مستعصية في الإقليم هي: آيديولوجية حكّام إيران المتزمتة والاستعلائية والتوسعية، والمطامع الإسرائيلية الاستيطانية في القدس والضفة الغربية، والحوكمة الفاشلة في العالم العربي.