تاريخ السادس والعشرين من كانون الثاني عام 1991، شكّل حدثاً عالمياً بارزاً في تاريخ السياسة الدولية، تمثل بإنهيار الإتحاد السوفياتي، وعودة موسكو في إطلالة جديدة تحت مسمّى دولة روسيا الإتحادية، وحمل العام 2015 معه عودة الروس الى منطقة الشرق الأوسط عبر التدخّل في الحرب السورية، في محاولة لكسر الإستقطاب الأحادي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية.
وبالعودة الى تاريخ التدخّل الروسي في المنطقة، فقد بدأ عمل قناصل روسيا القيصرية في المشرق العربي عام 1784، عندما تم تعيين قنصل عام في الإسكندرية، في حين كان نائب قنصل غير روسي يقوم بأعمال القنصل في كل من بيروت وصيدا وحلب واللاذقية.
تأسست القنصلية الروسية في بيروت عام 1839، وكان قسطنطين بازرلي أول قنصل روسي في بيروت، الذي وصلها يوم الأربعاء الواقع في العشرين من تشرين الثاني عام 1839، وقد لعب بازرلي دوراً هاماً في نقل مركز القنصلية من يافا الى بيروت، كونها تشكّل المركز التجاري والسياسي لبلاد الشام، ومركز الإقامة الدائم لقناصل الدول الأوروبية، وتمثلت مهمة بازرلي بحماية مصالح المسيحيين من طائفة الروم الأرثوذكس ودعم الكنيسة الأرثوذكسية.
أقام قسطنطين بازرلي في بيروت لمدة تقارب الأربعة عشر عاماً، وقد ساهم في إعادة العمل بالمطبعة الأرثوذكسية كما ساهم في فتح ما يقارب العشرين مدرسة أرثوذكسية تابعة لمؤسسات دينية، ومع إندلاع حرب القرم بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية عام 1853، أنزل بازرلي علم بلاده عن مبنى القنصلية الروسية في بيروت وغادر الى إيطاليا ومنها الى روسيا، بعد أن وضع وثائق قنصلية وتقارير دبلوماسية وإقتصادية عن الفترة التي أمضاها في بيروت، ومنها تقرير متعلق بالجيش العثماني في بلاد الشام، وقد إستعان بتلك الوثائق خلفه قسطنطين بنكوفيتش الذي تولّى مركز القنصل في العام 1869، في وضع كتابه «لبنان واللبنانيون» الذي تضمن مذكراته خلال فترة توليه مركز القنصل.
زاد الإهتمام الروسي ببيروت بعد الحرب المصرية – العثمانية وإخراج قوات محمد علي من بلاد الشام ومنها بيروت، فزارها في العام 1844 فوصلها على متن البارجة «نيازك» شخص يحمل إسماً مستعاراً وهو (ن.ست.ن) وهو مؤلف «يوميات رحلة الى سوريا وفلسطين» وتشير بعض المصادر الى أن هذا الشخص قد يكون موظفا حكوميا تابعا لوزارة الخارجية الروسية، وقد قال هذا الشخص الغامض في بيروت: «شاهدنا بإعجاب لا يوصف مرفأ ناشط الحركة لمدينة تجارية بأسوار حصونها،وأبراجها القديمة، ومنازل ضواحيها الصغيرة المعلقة كأنها مجموعة من الجزر فوق سهل متموّج بالخضرة يحيط ببيروت». أمضى (ن.ست.ن) في بلاد الشام أربع سنوات، منها أشهر قليلة في بيروت، وقد سكن في منزل خاص خارج أسوار بيروت القديمة، وقدّم وصفاً قديماً عن بيروت.
كما تجلّى الأهتمام الروسي ببيروت في كانون الثاني من العام 1846، حيث تم تكليف الطبيب الروسي أرتيمي الكسيفتش رافالوفيتش، بمهمة في الشرق، تتمثل في دراسة وباء الطاعون، وقد وضع إثني عشر تقريرا، نشرت في مجلة وزارة الشؤون الداخلية، خمسة من تلك التقارير خصصت لإقامته في بلاد الشام.
أما بالنسبة لداء الطاعون، الذي كان قد ظهر في بيروت في السابع من نيسان عام 1841، فقد لعب المحجر الصحي (الكرنتينا) دورا في تقليص عدد المصابين بالعدوى، وقد قال الطبيب الروسي: «وكانت ما تزال محاطة بسور تقفل أبوابه ليلا، لكن شوارعها ضيقة، وكان أهالي بيروت، يتمتعون بصحة جيدة».
كما زار بيروت في أيار من العام 1859، الغراندوق قسطنطين أمير روسيا، بعد أن رست باخرته بعيداً عن مرفأ بيروت، ما يؤكد أهمية بيروت ومكانتها والإهتمام الروسي بها.
في العام 1887، أنشأت الآنسة كيتريفو، المدرسة الموسكوبية الأرثوذكسية، وفي العام 1896، كانت البعثة الأرثوذكسية تملك خمس مدارس هي: مدرسة إبتدائية للبنين في المزرعة وأخرى في المصيطبة ومدرستان إبتدائيتان في طلعة الأحمر ومار نقولا، كما دعمت روسيا بعض مدارس الروم الأرثوذكس وهي: مدرسة في المزرعة وأخرى للبنات في المصيطبة، إضافة الى مدرسة إكليركية بإدارة الأب غبريال، ومع هزيمة روسيا في حربها ضد اليابان في العام 1905، تراجعت المدارس الروسية في بيروت، حتى أقفلت نهائياً مع إندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
إنحصر الدور الروسي في بيروت عقب إندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي العام 1951، تم إفتتاح المركز الثقافي الروسي، وبعد التنقل بين عدة مبانٍ، إستقرّ في محلة فردان الراقية في بيروت في العام 1981، مما عكس إهتماماً روسياً محوره ثقافي – فني.
اختلف الإهتمام الروسي ببيروت منذ قرن مضى، ولعل إختلاف السياسة بين روسيا القيصرية والإتحاد السوفياتي قد بدّل من نوعية العمل الروسي، وكان للحرب الباردة دور بارز في تعديل الإهتمام الروسي.
يطرح السؤال حالياً، وفي ظل حكم بوتين الذي يلقّب بقيصر روسيا، هل يعود الإهتمام الروسي ببيروت كما كان في عهد قياصرة آل رومانوف؟
* كاتب ومحلل سياسي