منذ سقوط حكم أسرة روريك وتحوّل الحكم إلى أسرة رومانوف القياصرة، مروراً بعهد الإمبراطورية، كانت روسيا قوّة دولية لا تُضاهى، ولا يستطيع أحد مجابهتها، ولديها امتدادات في آسيا وأوروبا وأميركا الشمالية، وصولاً للحاكم الأخير الإمبراطور نيقولا الثاني، وهو آخر أباطرة روسيا، بسبب عوامل عدة أبرزها الخلافات الأسرية الداخلية مع أبناء العمومة، بالإضافة إلى دخوله الحرب العالمية الأولى، والتي صاحبت تلك الحقبة سقوط العديد من الممالك والسلطنات، وأبرزها الدولة العثمانية في العالم الإسلامي. فبعد الحرب العالمية الأولى، والتي امتدت لـ 4 سنوات من 1914 حتى 1918م والتي حصدت أرواح أكثر من 16 مليون قتيل وملايين الجرحى، تغيّرت خريطة العالم بأكمله، وابتدأت الأنظمة الجمهورية بالتزايد، مخلفةً دماراً أوسع أوصلتنا للحرب العالمية الثانية.
نيقولا الثاني، وهو نجل ألكسندر الثالث الذي توفي في عام 1894م وسُلّمت الأمانة آنذاك لابنه (26 عاماً)، كان أمام تحدّيات كبرى، خصوصاً مع بداية قرن جديد اتسمّ بالتطور السريع، والصراعات الممتدة مع الممالك الأوروبية الأخرى والتي تجمعه بها أواصر رحم وثيقة، والصراعات المستمرة على تركة الأراضي الأوروبية الشرقية، لا سيما مع ضعف الدولة العثمانية وتراجعها ودعمها لأعداء روسيا، من الإمبراطورية الألمانية والنمساوية – المجرية. وكان لدى نيقولا الثاني أشبه ما يكون بالعرّاف الذي يحثه على الخروج من الحرب حتى لا يسقط حكمه وهو راسبوتين، والذي قال في إحدى رسائله الموجّهة اليه: «إنك أنت القيصر، والد هذا الشعب، لا تدع المجانين ينتصرون ويدمّرونك ويدمّرون شعبك.. وإذا هزمنا ألمانيا، ماذا سيحدث لروسيا؟ سنغرق جميعاً في الدماء.. والكارثة ستكون كبيرة، والأسى دون نهاية»، وهو الذي قُتل بعد فترة وجيزة من هذه الرسالة بظروف غامضة بسبب سيطرته على البلاط الروسي، ومحاولته لثني روسيا عن الحرب، والتي كان يقودها القادة العسكريون، ويحثون الإمبراطور على المواصلة طمعاً بحصد الأراضي، فأتت حاصدةً الإمبراطورية بأكملها، وهو ما توقعه راسبوتين، والذي توقع أن يُقتل هو كذلك، محذّراً الإمبراطور بأنّه إن قُتل فسيكون سقوط الإمبراطورية خلال سنتين من مقتله. ولم تدم الإمبراطورية أكثر من 18 شهراً منذ مقتل راسبوتين بظروف غامضة، اتُهمت بها أطراف من أسرة رومانوف، وأقاويل كانت تنسب مقتله للاستخبارات البريطانية آنذاك، لعلمهم أنّه كان يحث الإمبراطور على الخروج من الحرب.
سقطت الإمبراطورية الروسية وجاءت الجماهيرية الخاصة بلينين وستالين، والتي حصدت ملايين الأرواح الأخرى، وندم الشعب الروسي على إسقاط الإمبراطورية بسبب بعض المتعلّمين الحمقى الذين دمّروا التاريخ بحجّة المساواة الواهية، وهي المساواة التي أجاعت الشعب الروسي بأكمله وأهانته إهانة ليس لها مثيل.
إنّ الدروس المستفادة من التاريخ هي أعظم الدروس التي يجب على الإنسان أنْ يضعها بالاعتبار، سواءً كان حاكماً أو مواطناً عادياً، وعليه ألّا ينجرف لكل ما يُقال من العامة، فالله – عزّ وجل – يقول في كتابه العزيز: «ولكن أكثر الناس لا يعلمون»، وخصّ ذكر أولي الألباب في بعض الآيات الأخرى، وهم أهل العقول الراجحة، وعلينا أنْ نعي بأنّ حكم الجماهير يمكّن الجهلة من الوصول للسلطة، وعندما يصل الجهلة فإنّ الدماء حينها لن تكون لها قيمة، والأوطان لا منهج ثابتاً لها، فهي متغيّرة بمتغيّر الأحزاب الحاكمة. ولنأخذ مثالاً ومقارنة بسيطة بين المملكة المتحدة والجمهورية الفرنسية، من ناحية الاقتصاد، ومن ناحية هوية الدولة، ومن كافة النواحي الأخرى، والعاقل وحده يعي ما أقصد، وإلى ما أفكر. وسأختم بشيء من التاريخ، وإن جاء متأخّراً ولكنه ارتدادات لسقوط الإمبراطورية الروسية؛ لقد تفكّك الاتحاد السوفييتي وانتهت عظمة روسيا الجمهورية حتى، وعلى قارئ التاريخ أنْ يتفكّر!