Site icon IMLebanon

روسيا – أميركا: صفقة «السواب»

بعد يومين فقط من بدء الغارات الجوية الروسية في سوريا، ورَد خبران مقتضبان من أوكرانيا؛ قال الأوّل إنّ الانفصاليّين الموالين لروسيا أعلنوا عن البدء بسحب الدبابات من خط الجبهة شرقي أوكرانيا في خطوة تندرج ضمن اتفاق توَصَّل إليه الانفصاليون الموالون لموسكو والجيش الأوكراني الموالي للغرب الأسبوع الفائت. وفي اليوم نفسه جاءَت الخطوة المقابلة من جانب الغرب حينما كشَف الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في تصريح مقتضَب عن البدء بسحب الأسلحة الخفيفة من أوكرانيا. وخلفية هذا الخبر هي أنّ جمعية الأمن والتعاون الأوروبّية طلبَت سحبَ السلاح الخفيف من أوكرانيا وتجميعَه في مستودعات تخضع لمراقبتها.

ترى أوساط متابعة أنّ هاتين الخطوتين ليستا منفصلتين في توقيتهما عمّا يحدث في سوريا لجهة مباشرة موسكو حملتَها العسكرية هناك. وبحسب ما كشَفه مصدر مطّلع على أجواء الاتحاد الأوروبي لـ«الجمهورية»، فإنّ المباشرة الآن بتنفيذ خطوات تبريد النزاع الروسي – الغربي المشتعل داخل الحديقة الخلفية لروسيا، إنّما هو جزء من تطبيقات متدحرجة لتفاهم روسي – أميركي أُنجِز أخيراً بعيداً من الأضواء، ويقع جوهرُه في إنشاء مقايضة متزامنة بين إطلاق مسار في سوريا ومسار لتبريد القتال في أوكرانيا.

ماذا في التفاصيل؟

يكشف المصدر عينه أنّه منذ شهر نيسان الماضي اعتمدت محافل داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، تعبيرَ «السواب» (بمعنى المقايضة)، بوصفِه الاسمَ الحركي لتفاهم أميركي – روسي قيد الإعداد حول مقايضة بين أوكرانيا وسوريا.

وتقع تفاصيله في مبادئ عدة رئيسة أوّلية:

– المبدأ الأوّل تحظى بموجبه موسكو بتفويض أميركي وأوروبي شامل – ناقص فرنسا حتى الآن – للقيام بدور عسكري مباشر في سوريا يَخدم في الإطار العام السعيَ الدولي إلى الحرب على الإرهاب، ومن ناحية أخرى معالجة باب الحلّ السياسي السوري الموصَد حتى الآن، وذلك على نحو يُفضي الى تنفيذ مبادئ «جنيف واحد».

– المبدأ الثاني يتضمَّن تفاهماً على تزامن الحلَّين السوري والأوكراني. وبموجبه يتمّ في الوقت نفسه الذي تُنفّذ فيه روسيا مهمّاتها العسكرية في سوريا، البدءُ بخطوات متدرّجة لتجميد الوضع في أوكرانيا وتثبيت وقف إطلاق النار تحضيراً لإجراء انتخابات محلية هناك توازي الاستفتاء، وذلك في مدّة أقصاها حتى نهاية هذا العام أو لغاية الربع الاوّل من السنة المقبلة. وأيضاً تعهّد الغرب برفع العقوبات الدولية المفروضة ضدّ روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وذلك خلال فترة أقصاها نهاية العام 2005.

– المبدأ الثالث يحصر المهمّة الروسية العسكرية خلال هذه المرحلة في سوريا بهدف القضاء على كلّ الجماعات الإسلامية المسلّحة عدا «داعش» و«النصرة»، ذلك أنّ أوان استئصال الأخيرتين سيتمّ لاحقاً في توقيت سياسي لم ينضَج بعد، وأداتُه قوّة دولية وإقليمية من ضمنِها الروس والجيش السوري.

تفاصيل عن «السواب»

يتمّ تداول رواية كاملة في محافل أوروبّية عن تفاهم (السواب – الصفقة التبادلية بين أوكرانيا وسوريا)؛ تفيد أنّ الحوار الروسي – الأميركي حولها بدأ منذ نحو أربعة أشهر، لكنّ اللمسات الأخيرة عليها وضِعت في اجتماع بوتين – اوباما خلال دورة هذا العام للأمم المتّحدة نهايات الشهر الماضي، وأعطِي الضوء الأخضر الدولي لبدء العمليات الروسية في 31 أيلول الماضي وبدأ التنفيذ يوم 1 الشهر الجاري.

تُلاحظ هذه الرواية أنّ ترسانة الأسلحة الروسية المشاركة الآن في العمليات العسكرية، وصلت بالتوالي الى منطقة الساحل السوري على مدى ثلاثة أشهر، وتزَخّمت عمليات نقلِها خلال الأسبوعين الأخيرين من أيلول الماضي، والكثير منها مرَّ عبر المضائق التركية. وفي الفترة نفسِها، سحَبت هولندا وألمانيا منصّات صواريخ «باتريوت» من تركيا، ثمّ تبعَتهما واشنطن في سحب منصّة «باتريوت» تابعة لها.

ويعني ذلك عمَلياً أنّ تركيا أصبحَت الآن خاليةً تماماً من دفاعات منصّات «باتريوت» الممتازة لأنّها لم تكن فقط صالحة لاعتراض الصواريخ بل أيضاً الطائرات وهي على مسافة ٣ كلم بعيدة عن الأجواء التركية.

ويُؤمّن سحب «الباتريوت» لروسيا إشعاع حماية مطلوباً لانتشارها العسكري في منطقة الساحل السوري، يُقدّر قطرُه بـ 120 إلى 150 كلم في الجو والبرّ والبحر.

وحدث اختبار لهذا الإشعاع خلال نهايات الأسبوع الفائت حيث اخترقَت طائرة روسية أجواءَ تركيا، فاستدعَت أنقرة السفير الروسي لديها، وبالتزامن أرسَلت طائرتين للتحليق في أجواء سوريا، فاعترضَتهما على الأثر طائرتا «ميغ 29» وصِفتا بأنّهما مجهولتا الهوية في الأجواء التركية.

يسود نوع من الإرباك في أنقرة، حول الأهداف الأميركية الكامنة في التدخّل الروسي في سوريا. والشعور نفسه موجود في باريس التي تتّهم واشنطن بأنّها تحاول الهرب من المستنقع السوري عبر توظيف دور لروسيا هناك.

مصادر باريسية ترى أنّ البيت الأبيض يئسَ من الاستثمار في إنشاء قوة عسكرية سوريّة معتدلة. فمِن أصل 12 ألف عنصر من المعارضة السورية خضعوا لتدريبات أميركية، بقيَ قيد العمل خمسةُ عناصر؛ وفرَّ الباقون إلى صفوف «داعش» و»النصرة» مع أسلحتهم.

يُفسّر هذا الأمر تقنياً لماذا توافقت أميركا مع روسيا على اعتبار كلّ المجموعات الإسلامية المسلحة خارج «داعش» و»النصرة»، بمثابة أهداف مغطاة دولياً للمرحلة الأولى من الهجوم الروسي في سوريا.

فالمطلوب هو شرذمة هذه المجموعات لإحداث فرز بين عناصرها تحت ضغط النار، حيث يتوقع أن يُلقي جزءٌ منهم سلاحَه، فيما يفرّ الآخرون للالتحاق بـ«داعش» أو «النصرة». وسيصبح حينها التعامل العسكري معهم أسهل ضمن المرحلة اللاحقة المخصّصة لإنشاء قوّة حسم عسكري دولية ضد «داعش» في سوريا.

تفاهم أوّلي وليس كاملاً

السؤال الراهن هو: لماذا أجّلت واشنطن ضرب «داعش» خلال المرحلة الراهنة من المهمة الروسية العسكرية، والاكتفاء بضربات لها تؤدّي إلى احتوائها عسكرياً فقط؟

تتوافر ضمن هذا السياق معلومات تفيد بأنّ تفاهم موسكو – واشنطن المنجَز ليس كاملاً، بل هو بداية طريق مشترَك بين الطرفين، ومرجَّح أن تحدث انتكاسات في تأويله خلال تقدّم قطبَيه الأساسيّين مسافة أعمق داخل مسار تطبيق حلّ سوريا – أوكرانيا.

وتعود أسباب توقّع حدوث هذه الانتكاسات إلى الآتي:

أوّلاً – لا يزال هناك تباين بين نظرتي موسكو وواشنطن لطريقة إنتاج الحلّ السياسي في سوريا. ويُعتبر مصير الرئيس بشّار الأسد أحدها، عِلماً أنّ أجواء أوروبّية تتحدّث عن وجود نظرة دولية جديدة تجنَح لاعتبار أنَّ الخلاف حول الأسد لم يعُد له منزلة التأثير المعرقل للتصميم الدولي الخاص بضرب الإرهاب في سوريا.

صحيح أنّ الخلاف على الأسد لا يزال موجوداً، لكن يمكن التعايش معه بوصفِه خلافاً غير جوهري في هذه المرحلة، ولا يُعطّل التفاهم الدولي الذي يُغطّي الدور العسكري الروسي الراهن في سوريا.

– السبب الثاني يثير اعتباراته قرارُ استثناء «داعش» الآن من تطبيقات تفاهم «السواب» الروسي – الأميركي حيال سوريا. ويفيد أبرزُها أنّ أميركا تريد ترك مهمّة تصفية «داعش» إلى مرحلة لاحقة يخضَع توقيتها لحين نضوج ظرف سياسي مناسب لإنشاء جهد دولي وإقليمي عسكري شامل ضد «داعش»، تنخرط فيه موسكو والجيش السوري، لكنّ واشنطن تريد، قبل ذلك – وبعد قضاء روسيا على كلّ الجماعات المسلّحة الإسلامية فيها ناقص «داعش»- إيصالَ الوضع السوري إلى لحظة يصبح فيها أمام حالتين: «داعش» من جهة والنظام من جهة ثانية وبينهما المعارضة السلمية الديموقراطية من جهة ثالثة.

وبالوصول إلى هذه النقطة ستطرح واشنطن تصفية «داعش» انطلاقاً من ثلاثة عناوين: الأوّل استخدامها ورقة لمقايضة إيران في سوريا؛ الثاني مقايضتها بنوعية الحلّ السياسي النهائي في سوريا؛ والثالث استخدام واشنطن تدخّل موسكو العسكري في سوريا كسابقة لتدخّل عسكري دولي لاحق فيها ضد «داعش»، وإنْ كان مِن ضمنه روسيا والجيش السوري.

نقاط لقاء

وعلى رغم أنّ طبيعة التفاهم الروسي – الأميركي تتَسم بأنّه أوّلي، إلّا أنّه يُحقّق في هذه اللحظة مصالح استراتيجية للطرفين؛ فروسيا تريد قتال الإرهاب في سوريا بدلاً من اضطرارها لقتالهم في القوقاز، كما أنّها فعلياً تعيش منذ عامين اشتباكاً مع الغرب، وإذا كان الأميركيون في وارد خديعتها لاحقاً عبر جرِّها إلى فخٍّ أفغاني في سوريا، فهي تُفضّل الاشتباك مع الغرب في سوريا بدلاً من أن يحدث ذلك في حديقتها القوقازية الخلفية.

وبالنسبة إلى واشنطن، فإنّ نقطة التقاء مصالحها مع روسيا في هذه اللحظة تتعلق بتأمين دور مستقلّ مستديم للأكراد في سوريا، وهو أمر يُلحق ضرراً بإيران وتركيا اللتين لديهما صدى ديموغرافي كردي داخل نسيج شعبَيهما. ويلاحظ أنّ روسيا ميَّزت الأكراد خلال إعلانها بيانَ مهمّتها العسكرية في سوريا، حيث اعتبرتهم قوّةً شرعية الى جانب الجيش السوري، كما دعَتهم الى افتتاح ممثلية لهم في موسكو.

نقطة الالتقاء الثانية تتعلّق بتحييد إسرائيل من تأثيرات الصراع السوري. صحيح أنّ موسكو أدخَلت سلاحاً كاسراً للتوازن مع إسرائيل إلى سوريا، إلّا أنّها في المقابل طمأنَت إسرائيل إلى أنّ مشغّليه هم حصراً ضبّاط وجنود روس. وبالتالي انتفى هاجس إسرائيل الماضي لجهة احتمال أن تصل الأسلحة الروسية المرسَلة للجيش السوري إلى أيدي «حزب الله».