كلّما مرّ الوقت، يتبين أن التدخل الروسي في سوريا يطرح مزيدا من الأسئلة التي لا اجوبة عنها، أقلّه في المدى المنظور. هناك كلام لوزير الخارجية في النظام السوري وليد المعلّم يوحي بأنّ بشّار الأسد يمكن ان يطلب من موسكو ارسال جنود إلى سوريا. هذا الكلام الصادر عن المعلّم غير دقيق، على الرغم من أنّه يترافق مع تأكيد ناطق باسم الكرملين لوجود رغبة روسية في ارسال قوات إلى الأراضي السورية.
يفتقد كلام المعلّم الدقّة لسبب بسيط عائد إلى أن هناك قوات روسية في سوريا، خصوصا في منطقة الساحل. القوات موجودة في اللاذقية ومحيطها تحديدا، وفي طرطوس ايضا. يبلغ عدد الجنود الروس الآن نحو الفين وهم يساعدون الميليشيات التابعة للنظام في منع سقوط المنطقة العلوية التي تظن روسيا أنّ في استطاعتها وضعها تحت وصايتها، بقي بشّار الأسد أو رحل.
لم يكن لروسيا أن تزيد حجم تدخلها في سوريا، مع الإصرار على جعله علنيا، لولا شعورها في الأسابيع القليلة الماضية أن مصير الأسد الإبن صار مطروحا بشكل جدّي. لذلك كان عليها طمأنته إلى وضعه في ضوء رغبة الرئيس فلاديمير بوتين في استغلال الأسد الإبن إلى أبعد حدود ممكنة… أي أنّه يريد عصره حتّى آخر نقطة.
لم يعد رئيس النظام يسيطر على شيء في سوريا، خصوصا أن لدى الإيرانيين واداتهم المسماة «حزب الله»، الذي ليس سوى ميليشيا مذهبية لبنانية تابعة لـ»الحرس الثوري» الإيراني، حسابات خاصة بهم.
تقوم هذه الحسابات على الإستيلاء على اكبر مساحة من الأراضي والعقارات في دمشق ومحيطها… وصولا إلى الزبداني والغوطتين، على ان يكون هناك انتقال لسكان القرى الشيعية القريبة من حلب وادلب إلى العاصمة ومحيطها. هذا لا يعني، أقلّه إلى الآن، ان هناك تضاربا في المواقف بين طهران وموسكو. على العكس من ذلك، يبدو أن هناك توزيعا للأدوار بينهما في وقت بات جزء من الأراضي السورية منطقة نفوذ تركية عاصمتها حلب.
ليس سرّا أن من بين الأسباب التي أدّت إلى وقف «جبهة النصرة» تمددها في اتجاه قرى علوية لا تبعد كثيرا عن القرداحة وجود ضغوط تركية على الجبهة. هذه الضغوط عائدة اساسا إلى أنّ الأولويات التركية تندرج في سياق حسابات معقّدة. تأخذ هذه الحسابات في الإعتبار مستقبل العلاقة مع العلويين في سوريا من جهة والمواجهة المفتوحة بين انقرة والأكراد من جهة أخرى.
كذلك، لم يعد سرّا أن الإدارة الأميركية حائرة من امرها. لا تشبه ادارة باراك اوباما سوى ادارة جيمي كارتر الذي امتحنته ايران اواخر سبعينات القرن الماضي واكتشفت أنّ لا وجود لديه لأي نيّة في مواجهة من أي نوع كان… مع أيّ طرف كان.
بوتين، بدوره امتحن اوباما وتأكّد له أنّ في استطاعته الذهاب بعيدا في تحدّيه، أو احتوائه، أكان ذلك في اوكرانيا أو في سوريا. أمّا ايران، فهي تعتبر أنّ الإتفاق في شأن ملفّها النووي مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا، هو الإنجاز الوحيد لإدارة اوباما. إنّه في الواقع انجاز ايراني لا اكثر. إنّه انجاز ايراني صار موضع فخر لدى الإدارة الأميركية!
ليس لدى أي سوري أي وهم في شأن ما إذا كان اوباما على استعداد لتحدي ايران في سوريا، وحتّى في لبنان، وذلك حرصا على الإتفاق المتعلّق بالملفّ النووي الذي يبدو الرئيس الأميركي مستعدا لحمايته برموش العين…
ثمّة بديهيات غريبة، يبدو أنّ الإدارة الأميركية باتت تلتزمها. في مقدّمها الإستعداد لمراعاة ايران وروسيا إلى الحدّ الأقصى في سوريا. هناك اعتراف اميركي بأنّ سوريا منطقة نفوذ ايرانية ـ روسية ـ تركية. هذا ما يفسّر إلى حد كبير التراجع الأميركي عن أيّ رد فعل في آب ـ اغسطس من العام 2013، عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي الحرب التي يشنّها على شعبه.
استطاع فلاديمير بوتين، الذي كتب وقتذاك مقالا في «نيويورك تايمز» يدعو فيه اوباما إلى التعقّل والتركيز على مواجهة الإرهاب، منع توجيه ضربة إلى النظام السوري تشلّ في أقلّ تقدير مطاراته.
قبل الرئيس الأميركي، الذي كان يعتبر السلاح الكيميائي «خطا احمر» ويشدّد على رحيل الأسد الأبن، استخدام البراميل المتفجرة في قتل السوريين. رفع اوباما شعار «لا للسلاح الكيميائي… نعم للبراميل المتفجّرة». مرّر الرئيس الروسي على اوباما ما يريد تمريره، كذلك فعلت ايران التي اكتشفت اخيرا مدى صعوبة تشييع العلويين في سوريا وغير سوريا.
ما نشهده حاليا هو بحث في كيفية التنسيق من أجل مواجهة «داعش» وذلك من أجل ضمان بقاء الإدارة الأميركية في مركب واحد مع الروسي والإيراني والذهاب إلى النهاية في لعبة تقاسم النفوذ في سوريا. صار هذا الأمر قابلا للتحقيق، خصوصا أنّه لم يعد يوجد في موسكو وطهران من يحمل كلام اوباما على محمل الجدّ منذ تراجع عن توجيه ضربة إلى النظام السوري.
سيرحل الأسد الإبن. سيرحل عاجلا أم آجلا، حتّى لو كان يعتقد أن الكرملين لا يمكن أن يتخلّى عنه يوما. سيذهب الرئيس الروسي بعيدا في مغامرته السورية، كذلك ستفعل ايران، خصوصا أنّ ليس في واشنطن من يريد الإعتراف بالدور الذي لعبه النظام السوري في نشوء «داعش» وتمدّده. ليس في واشنطن من يريد العودة قليلا إلى خلف للتأكد من أنّ بشّار و»داعش» وجهان لعملة واحدة وأن الحرب على النظام السوري، بهدف الإنتهاء منه، جزء لا يتجزّأ من الحرب على الإرهاب.
هذا التراخي الأميركي الذي يعكس تفهّما للمصالح الروسية في سوريا، خصوصا لجهة منع تمرير انابيب الغاز الخليجي في اراضيها، أدّى إلى نتائج سلبية تهدّد الإستقرار الإقليمي.
في غياب الدور الذي يفترض أن تلعبه القوة العظمى الوحيدة في العالم، لا يعود مستغربا استمرار عملية تقسيم سوريا وتفتيتها. ليس مستغربا ايضا ما تفعله ايران في لبنان حيث شلل حكومي وحراك شعبي لا يستفيد منه سوى «حزب الله» الذي يصرّ على تعديل الطائف واحلال المثالثة مكان المناصفة بين المسلمين والمسيحيين وتكريس سلاحه المذهبي سلاحا شرعيا، بل اكثر شرعية من سلاح الدولة اللبنانية.
في ظلّ التراخي الأميركي، أيضا وأيضا، ليس مستغربا ما تقوم به اسرائيل في القدس حيث تحاول تغيير وضع المسجد الأقصى وفتح حرمه امام المتطرّفين اليهود ايضا.
لم يعد هناك من شيء مستغرب في الشرق الأوسط منذ الزلزال العراقي الذي افتعلته ادارة بوش الإبن في العام 2003 ومنذ قرّرت ادارة اوباما الإكتفاء بالتفرّج على ترددات هذا الزلزال، وهي ترددات ليس ما يشير إلى أنّها ستهدأ قريبا.