IMLebanon

روسيا وإيران إذ تنسّقان للتحكّم بالحرب على «داعش»

عنوانان وهدفان لا يمكن أحداً أن يرفضهما لسورية: وقف القتال أو «تجميده»، والحوار من أجل حل سياسي… لكن كيف؟ من الطبيعي أن تثار الأسئلة. فالحلول الداخلية «الوطنية» قتلها النظام السوري في مهدها، والحلول الخارجية قتلها حلفاء النظام و»أصدقاء» المعارضة وصارت فريسة صراعاتهم. ثم وجد الجميع أنفسهم في مهب «الحرب على الإرهاب»، فانطلقت منافسة محمومة بين «الحلفاء» و»الأصدقاء» يجمعهم هدف القضاء على «داعش» وتفرّقهم إزاحة بشار الأسد كهدف لا بدّ منه للتحرك في الاتجاهين: تفكيك منظومة الارهاب، ومعالجة الأزمة الداخلية. كانت «الحرب على داعش» عزلت روسيا تلقائياً في المربع الاوكراني، لكن الثغرات الكثيرة التي أبقتها استراتيجية باراك اوباما لـ «التحالف ضد الارهاب»، مثلها مثل الثغرات في استراتيجيته للتعامل مع الأزمة السورية، فتحت لموسكو أبواباً واسعة للعودة كلاعب دولي مكّنه الملف السوري من مصادرة مجلس الأمن وتعطيله، ومن التلاعب بمبادرات مبعوثي الأمم المتحدة، وسيمكّنه تواطؤه العميق مع ايران من التدخل في الحرب على الارهاب والتحكّم ببعض مساراتها.

فالمنطق العام الذي يخيّم على «مبادرة» روسيا و»خطّة» المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الى سورية هو أن نظام الاسد استطاع الصمود وتجب مساعدته على استثمار «نصره» تحت ستار البحث عن حل سياسي، وأن المعارضة بمسالميها ومقاتليها تراجعت اجتماعياً وتقهقرت ميدانياً وتجب مساعدتها على «ادارة هزيمتها». وتعتقد الجهتان المبادرتان أن المساعي السابقة لوقف القتال لم تنجح لأن طرفي الصراع ظنّا لفترة طويلة أنهما قادران على الحسم، ومرّا بمراحل متقلّبة جرّبا خلالها كل ما يستطيعان، لكن الواقع ظلّ أقوى منهما. فالنظام انعطب منذ اللحظة الأولى، حين كُسِرت حواجز الخوف والصمت، ففقد رشده وصوابه وحنكته، وأسرَ نفسه في حل عسكري لن يجديه حتى لو تفوّق على خصومه. أما المعارضة فبدأت عملياً من الصفر، لا يعرف بعضها بعضاً في الداخل، ولا تراث قريباً أو تجربة جارية تستند اليهما، ولا أحد في الخارج يعرفها أو سبق أن عمل معها، فكان عليها أن تعتمد على من تيسّر من « الأصدقاء» الذين قدّم بعضهم الدعم لكنها أدركت متأخرة أن الولايات المتحدة تحكّمت بمصيرها طوال الوقت وبدّدت تضحياتها وجهدها لإسقاط النظام فانتهت بعد أربعة أعوام الى ما يشبه الضياع.

سبق للاسد أن عرض خططه لحل سياسي من داخل النظام وتحت اشرافه وقيادته، مستبقاً «جنيف 1» الذي شاركت فيه روسيا واعتبرت أن صيغته لا تتناقض مع ما اقترحه الاسد، وتبنّت ايران هذا التفسير بل صاغت «مبادرةً» لتطبيق «جنيف 1» ولم تجد سوى مؤيد واحد لها هو الاسد. كل ذلك تأخذه موسكو اليوم وتعيد عجنه موحيةً بأنها أدخلت عليه تعديلات، لكنها لا تزال واقعياً في المربع الأول من تفكيرها: فبيان جنيف (30 حزيران/ يونيو 2012) بالنسبة اليها كان يعني حواراً بين النظام والمعارضة التي يقبلها النظام، وكان الاسد ضيّق حيّز «المقبولين» كثيراً، مقصياً أولاً «معارضة الخارج» كلّها، ثم مستبعداً وزيره «المعارض» قدري جميل الذي لجأ الى موسكو، وممارساً الترهيب لمعارضي الداخل فحتى لؤي حسين «اختفى» ولا يعرف الاسد نفسه مكان وجوده (كما أبلغ المبعوث الروسي ميخائيل بوغدانوف). الجديد أن الروس يتحدثون عن مشاركة المعارضة من دون إقصاء، ويقدّمون ذلك على أنه «تنازل» وافق عليه الاسد بطلب منهم، بل يشيرون الى جملة «تنازلات» بينها قبوله ان يكون «الحوار» في موسكو وليس في دمشق (!)، وبينها أيضاً أنه لم يعد متمسكاً بخطّته التي تستغرق عشرات السنوات ولا يمانع التخلّي عن صلاحيات لا علاقة لها بشؤون المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، أي أنه يتفضّل على الحكومة ورئيسها بصلاحيات ادارة السياحة والزراعة والبيئة والخدمات البلدية وما الى ذلك… لكنه لن يضمن مثلاً عدم تدخل عسس الأجهزة و»الشبّيحة» في كل الوزارات كما في القضاء وملف «العدالة الانتقالية» وموجباته.

ما الذي منع الروس من دفع النظام الى هذه الأريحية في «التنازل» خلال مفاوضات جنيف؟ ثلاثة أسباب: 1) لأنها كانت أكثر تركيزاً على البحث في «هيئة انتقالية للحكم بصلاحيات كاملة»، علماً أنها استندت الى ما سمّي «جنيف 2» الذي كان ثمرة توافق روسي – اميركي وأُثبت في القرار الدولي 2118 بناء على «صفقة» التخلّص من السلاح الكيماوي من دون معاقبة الاسد على استخدامه لقتل نحو 1466 شخصاً في الغوطة الدمشقية الشرقية. 2) لأنها فرضت تمثيل المعارضة بوفد واحد من «الائتلاف» في حين أن موسكو ودمشق حاولتا اشراك وفد ثانٍ للمعارضات الاخرى بغية تشتيت المفاوضات والاشتغال على التناقضات من خلال معارضي الداخل الذين سيتجنبون أي طرح «انتقالي» جوهري مخافة التعرّض لهم لدى عودتهم الى سورية. 3) لأن «جنيف 2» تضمن عنواناً وآليةً لحل سياسي غير مناسب للنظام فوجب احباطه والتخلّص منه، ووجد السوريون والايرانيون أنه لا يزال متاحاً آنذاك استغلال مسألة «محاربة الارهاب» واللعب بها، فشَهَرها النظام كورقة لمصلحته وكشرط أولي للشروع في تفاوض لا يريده، علماً أنه كان مستفيداً مباشرةً من انتشار تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة»…

هذه الورقة – الخدعة كانت مفيدة للنظام وحلفائه لتعطيل «جنيف 2»، لكنها تغيّرت بعدما قلب «داعش» الطاولة في العراق ثم في سورية، فأصبحت «محاربة الارهاب» مهمة تحالف دولي تقوده اميركا ويضرب في سورية محاولاً رسم خط فاصل بين «محاربة الارهاب» والأزمة الداخلية. كما يضرب في العراق بعدما فرض بعض الشروط السياسية، التي تكيّفت ايران معها لفترة، وعلى مضض، قبل أن تجد الثغرات للالتفاف عليها، تحديداً من خلال التحرك برّاً بواسطة ميليشياتها الشيعية العراقية. ولا شك في أنها تبلور حالياً ترتيبات لتكرار السيناريو نفسه في سورية، بدليل الاجتماع الأخير في طهران لوزراء خارجية «الحلف الثلاثي» (ايران والعراق وسورية) بحضور مسؤولي الأمن وأبرزهم قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني بالاضافة الى قادة ميليشيات عراقية ولبنانية («حزب الله») وفلسطينية (حماس). ثمة عنوان واحد لهذا الاجتماع وهو «القضاء على داعش»، وثمة منطلقان: 1) الحرب الحالية وسيلة لتحديد المستقبل فإمّا أن يكون الفوز لإيران (بمواكبة روسية بالسلاح والديبلوماسية) أو يكون لاميركا. و2) الفوز لإيران يعني ابقاء «التحالف» في الجو وحرمانه من قوات برية لقيادة الحرب على الأرض.

وهكذا تتضح أكثر معالم الصورة. فموسكو تجري اتصالات مكثّفة لتنظيم حوار سوري، وتقول إنها تحظى بتأييد اميركي غير معروف الشروط، وتبدو مبادرتها مكمّلة بل يقال منسّقة مع خطة دي ميستورا الذي يحاول جاهداً اظهار أن النظام لن يكون المستفيد الوحيد منها. لكن الدعم الذي يتلقاه من موسكو وطهران، والتشكيك الذي يلقاه من كل العواصم الأخرى، يشيان بأن البعد الإنساني لخطّته لا يكفي لتجميد موضوعي للقتال. فالروس والإيرانيون يريدون هذا «التجميد» كمعطى شكلي يوفّر بعض الغطاء لتمرير «حل سياسي» قريب من الصيغة التي يريدها النظام (حكومة تحت رئاسة الأسد تتضمن معارضين وتخضع لتوجيهاته)، لكنهم يريدون «التجميد» كمعطى عملي يتيح وضع قوات النظام في واجهة محاربة «داعش» برّاً، في حين أن القتال الفعلي بقيادة ايرانية سيكون لتشكيلة من الميليشيات على رأسها «حزب الله» اللبناني، تماماً كما يفعل الإيرانيون حالياً في العراق بواسطة ميليشياتهم التي تبيّن أنها أفضل قتالاً من الجيش الذي بناه الأميركيون لكن قيادة نوري المالكي أودت به الى التهلكة.