Site icon IMLebanon

روسيا وإيران لتغيير مسار فيينا … بعد «صدمة» الرياض

هل بدأت روسيا وإيران عملية منهجية لإسقاط مسار فيينا لإنهاء الأزمة في سورية، بعدما أحبطتا مسار جنيف قبله؟ المؤكّد أن لديهما أسباباً، خصوصاً روسيا التي تعتبر أن الأطراف الأخرى الجالسة إلى الطاولة لم تغيّر موقفها من نظام بشار الأسد، أي أنها لم تفهم بعد مغزى التدخل الروسي أو لا تريد الاعتراف بالتغيير الذي طرأ على موازين القوى داخلياً لمصلحة النظام. أما إيران فكانت ولا تزال رافضة صيغة جنيف لـ «حكم انتقالي»، والفارق بينها وبين روسيا أن الأخيرة تقبل تكتيكياً البحث في «الانتقال» كطريقة جدلية لتسويق مفهومها لـ «بقاء الأسد».

منذ عشية مؤتمر الرياض للمعارضة، بدأت موسكو تطلق إشارات اعتراضية متتالية تلقتها واشنطن بالإعلان فجأة عن زيارة جون كيري روسيا. كانت بداية الاعتراضات على نقل لقاء «مجموعة فيينا» إلى نيويورك، وتواصلت باستعجال الحصول على قائمة «التنظيمات الإرهابية» التي كلّف الأردن بإعدادها، ثم برفض الصفة التمثيلية للمعارضين المدعوين إلى الرياض، وكان آخرها تساؤل سيرغي لافروف لماذا ترفض واشنطن إشراك «نظام الأسد» في الحرب على «داعش»… كل ذلك يشي بأحد أمرين: إمّا أن الروس يرون أن الخطوات التمهيدية لتطبيق «خريطة فيينا» لا تسير على النحو الذي يناسبهم، وإما أنهم يريدون مساومة الأميركيين على شروط جديدة لاستمرارهم في تبنّي هذه «الخريطة». وقد مهّدوا للمساومة أولاً بالتصعيد المفتعل للتوتر مع تركيا، ثم بتكثيف القصف على مناطق المعارضة، وكذلك بغضّ النظر عن العمليات الوحشية التي يقدم عليها النظام في منطقة الغوطة.

غضبت موسكو وطهران لأن مؤتمر الرياض استبعد «المعارضين» المزيفين الموالين لهما أو للنظام. لذلك، أجمعت الأطراف المتضررة من المؤتمر على ذريعة واحدة لتبرير غياب عملائها، وهي أن المؤتمرين، أو بعضاً منهم، «إرهابيون». فالخارجية الروسية قالت أن قسماً «كبيراً» من المعارضين السوريين قاطعوا «لأنهم رفضوا الجلوس إلى الطاولة نفسها مع متطرفين وإرهابيين». أما نائب وزير الخارجية الإيراني فقال أن «مجموعات إرهابية على صلة بداعش تشارك في هذا الاجتماع». وبالطبع، قال الأسد أنه يرفض التفاوض مع «جماعات إرهابية» إلا بعد «تغيير منهجها والتخلي عن سلاحها». وإذ قدّمت تصريحات «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، مساندة للنظام والإيرانيين، بتهجّمه على ممثلي الفصائل المقاتلة الذين قال أنهم لا يستطيعون تنفيذ ما يلتزمونه، فإن هذه المساندة ملتبسة لأنها تبعد شبهة الإرهاب عن تلك الفصائل.

ولكي تكتمل الصورة فإن رئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي صالح مسلم، وهو أحد المستبعدين، اختار اللغة نفسها لتوكيد المحور الذي ينتمي إليه ولم يوفّر أي سبب يدعو إلى تخطئة استبعاده، إذ قال أن «الهدف الأساسي للمؤتمر كان إضفاء شرعية على منظمات وفصائل مشتقّة من تنظيم القاعدة». واعتبر أن كيانات أخرى عربية وكردية وتركمانية «معروفة بمعارضتها للنظام» استُبعدت عمداً لأنها لا تدعم مواقف الأطراف الخارجية ولا تلبي أجنداتها، وكان الأجدى أن يذهب بالصراحة إلى أقصاها للقول أن حزبه وتلك «الكيانات» غُيّبت لأنها تدعم أجندة إيران، وبما أن إيران تدعم النظام وتعتبره «خطاً أحمر» (وفقاً لعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد)، فهذا يعني أن تلك «الكيانات» ملتزمة هذا «الخط»، ولو دُعيت إلى الرياض لوجب فتح المؤتمر لعدد لا يُحصى من «المعارضين»، ولما أمكن التوافق على شيء.

ولأن مؤتمر الرياض كان لحظة حاسمة لدسّ مَن صنّعتهم استخبارات روسيا وإيران ونظام الأسد في «خريطة الحل السياسي»، ولا وجود لهم على الأرض، فإن غيابهم شكّل خسارة لمن استثمروا فيهم منذ زمن. وللتخفيف من الخسارة جرى ترتيب ذلك «المؤتمر» في المالكية، إحدى مناطق سيطرة قوات حزب «الاتحاد» الكردي، وكان بين أولوياته مناقشة «مسألة الفيديرالية الديموقراطية»… هذا يدفع بالخيارات إلى ما هو أبعد من «خريطة فيينا»، بل يرمي إلى توجيه «الحل السياسي» نحو هدف كان لا يزال محور تفكير النظام وإيران، فالفيديرالية هو الاسم الآخر للتجزئة والتفتيت واالتقسيم. وجاءت روسيا الآن لدعم هذا التوجّه، بدليل خدماتها الجويّة لعمليات «التطهير العرقي» الذي تنفّذها قوات النظام ضد التركمان بعد التطهير المذهبي للسنّة، مواكبة للتطهير العرقي الذي أقدم عليه حزب «الاتحاد» للعرب في محيط تل أبيض ويواصله حالياً بتهجير التركمان. وليس مصادفةً أن يتزامن ذلك مع استكمال إفراغ حمص من سكانها السنّة. وكلّها عمليات لا بد من التذكير بأنها تكرّر السيناريوات الإسرائيلية لاقتلاع السكان الفلسطينيين. وهكذا، فإن «مؤتمر المالكية» لم يكن للردّ على مؤتمر الرياض فحسب، بل خصوصاً لخدمة أغراض التحالف الأسدي – الإيراني بالردّ على أولى الثوابت التي أجمعت عليها المعارضة في الرياض، وهي «الوحدة أرضاً وشعباً».

واقع الأمر أن روسيا وإيران لا تكتفيان بأن تتمثّلا بوفد النظام في أي مفاوضات مزمعة، بل تتضامنان مع هذا النظام في السعي إلى الاستحواذ على حصة مهمة في وفد المعارضة، وطالما أنهما لم تحصلا عليها، فقد وجهتا سهام النقد إلى مؤتمر الرياض بأنه استضاف «إرهابيين». وتلك ذريعة دعائية أصبحت مستهلكة، لا يدحضها سوى أن «إرهاب نظام الأسد» فاقع البروز في بديهيات صورته وتكوينه وممارساته، ولم يضف إليه تحالفه مع روسيا وإيران سوى «شرعنة» هذا الإرهاب، وهما المشهورتان بترهيب معارضيهما، أما ما نقص من تلك «الشرعية» فاستكمله النظام من وحشية «داعش»، حتى أصبح قادراً على تخيير المجتمع الدولي بين إرهاب «دولة الأسد» وإرهاب «دولة البغدادي». والأكيد أن روسيا وإيران والنظام يريدون مفاوضات بين وفدين متطابقين، ففي أي عقل يمكن أن يستقيم ذلك؟ فقط في العقل الذي سبق للإسرائيليين أن عبروا عنه بسعيهم إلى فرض تسوية على الفلسطينيين تقوم على «موازين القوى العسكرية»، والروس والإيرانيون يتمثّلون بهذا النهج المستمدّ من كل ما يعنيه الاحتلال من استبداد وعدوانية. فكما أن الإسرائيليين يتوقعون من المفاوض الفلسطيني الرضوخ لإملاءاتهم، كذلك يريد الروس والإيرانيون من المعارض المفاوض أن يبارك بقاء النظام ويكتفي بما يعرضه عليه.

لذلك، يوافق سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف ظاهرياً على بيانات فيينا التي تقول أن مرجعية الحل السياسي هي بيان «جنيف – 1»، أما خارج الاجتماعات فيتمسّك الروسي بـ «حكومة وحدة وطنية» نافياً أي صفة «انتقالية» للحل المنشود وللمفاوضات بمجملها، بل شاطباً البند الأول من «جنيف – 1» وهو إقامة «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويفسّر الأسد والإيرانيون الكلام الروسي بأنه يعني استمرار النظام مع حكومة مطعّمة بمعارضين حدّدوا أعدادهم وأسماءهم وحقائبهم مسبقاً. وإذا لم ينجح هذا الخيار، وهو لن يمرّ بأي حال، فإنهم يعتبرون أن الحسم العسكري عاد متاحاً بوجود الحليف الروسي الذي لا تبدي الولايات المتحدة أي إرادة أو رغبة في مواجهته.

بالطبع، هناك أسباب كثيرة للاعتقاد بأن أميركا غير مستعدة لدعم من يرغب من حلفائها الإقليميين في خوض مواجهة طويلة الأمد مع الروس، لأنها غير موافقة عموماً على النتيجة المحتملة لصراع كهذا، وكانت غير مقتنعة بدور عسكري للمعارضة وازدادت اقتناعاً بعد التدخّل الروسي. فأقصى ما تتمناه هو إقناع روسيا بأن تكون لديها استجابة واقعية لمتطلبات حل سياسي «معقول ومتوازن» يمكن الضغط على المعارضة وداعميها لقبوله. لكن، كلما اقتربت واشنطن من لحظة مفصلية في الشأن السوري، متوقّعة أن تلاقيها موسكو في منتصف الطريق، رفعت الأخيرة ورقة أوكرانيا والعقوبات، أي «اعطوا هنا لتأخذوا هناك». ولأنها ترفض أن «تعطي» في أوكرانيا، فإنها لن «تأخذ» في سورية. لذا، بدت مشوّشة ومرتبكة، إذ لم يفصل سوى ساعات بين بيان للخارجية الأميركية يرحّب بنتائج مؤتمر الرياض، وبين إعلان جون كيري أن لديه «مشكلتين» في تلك النتائج. فهل كان يتصوّر مثلاً أن تقرّر المعارضة الموافقة على حل سياسي «بوجود الأسد وزمرته»، أم كان يتوقّع التزاماً أقل بـ «حكم انتقالي» (بيان جنيف – 1) وقبولاً أكثر بـ «حكومة وحدة وطنية» (بيان فيينا). لو كان هذا هو المطلوب لما أمكن أصلاً عقد مؤتمر الرياض.