أغرب الغرائب التي طالعتنا من خلال البيان الذي صدر في أواخر الأسبوع الماضي، تلك التي أتحفتنا بها وزارة الخارجية الروسية، منتقدة بعنف وحدة، قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب «ماجستا»، الذي أصدره الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي، وكسر فيه الفيتو الذي أطلقه الرئيس أوباما ضد هذا القانون الخنفشاري الذي ليس فيه من القانون والأصول والمبادئ القانونية المعتمدة في العالم كله وفي الأنظمة القانونية وتياراتها ومبادئها المختلفة، أي أثر وأية علاقة، بحيث يمكن لأي طالب مبتدئ في أية كلية حقوق في العالم أن يطعن بأصله وفصله والحدود السيادية الدولية التي تجاوزها بما لا يتناسب إطلاقا مع المستوى التشريعي الذي يتوجب وجوده في كونغرس الدولة الأعلى شأنا في هذا العالم.
دون شك، بعض ما جاء في هذا البيان، يتمثل فيه شيء من الصحة النظرية، خاصة ما تعلق منه بخرق قوانين وأعراف ومبادئ السيادة الوطنية لكل دولة من دول العالم تحظى بحدّ أدنى من الإستقلال، إلا أن صدوره عن الخارجية الروسية فيه كثير من استغباء الناس والدول والمنظمات الدولية، بما فيها مجلس الأمن ومنظمة الأمم المتحدة، ليتبدى لنا أن الناطق الروسي اذ ينتقد كونغرس الولايات المتحدة، يتخيل لنا أن غشاوة ما، باتت تُخْفي الحقائق والوقائع عن عيون وعقول وقلوب المسؤولين الروس، وأن روسيا الغاطسة كلياً في بحار الدماء السورية، والمستمرة في ممارسة عمليات قتل الشعب السوري على هذا النحو الوحشي، باتت مرشحة بصورة متزايدة إلى أن تكون في طليعة المدعى عليهم لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم فاضحة ووحشية ضد الإنسانية، فالتهم الروسية الموجهة إلى الكونغرس الأميركي، تلبس الجسم السياسي الروسي الذي لم يترك بناءً ولا عمراناً ولا مسجداً ولا مستشفى إلاّ وطاوله بالصواريخ المزلزلة، وقد تجاوز عدد القتلى الذين أودى بهم طيرانه القاتل حتى الآن، ما يزيد على أربعة الآف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الأبرياء المحاصرين بأرواحهم وأجسادهم ولقمة عيشهم يواجهون إمكانية موت محقق ليل نهار.
تحذّر روسيا بالتالي الولايات المتحدة من التعرض لسيادات الدول وإخضاعها للمحاكمات التي يمنع القانون الدولي إدخالها في كل هذه الدهاليز المختلقة التي تدخلها الولايات المتحدة في خباياها وخفاياها، مستهدفة الإمساك بأعناق الدول وسياساتها وأموالها ومواقعها الإستراتيجية، وفي طليعتها تلك الإستهدافات ضد «حليفتها» المملكة العربية السعودية. وإذ تفاجئنا روسيا، بمثل هذا التحذير الصادر عن أعتى قوى العالم الحديث والأكثر إلحاقاً بالأذى والدمار الشامل بالشعوب والحضارات من قصف همجي تفوقت فيه على همجية الإرهاب الداعشي، وهو إرهاب ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في خلقه وتعزيز انتشاره، ولا شك أنها اذ تهاجم التعرض لمبدأ سيادة الدول على أراضيها وترفض الولاية الاميركية على دول العالم المستقلة، فإنها تتحسب دون شك لأن يكون هذا الإجتهاد الأميركي الخاطيء والمثير للجدل والرفض، سلاحاً موجهاً ضدها بالذات، متغلغلاً في وقت من الأوقات اللاحقة، في صلب الدولة الروسية شعباً وأرضاً ومؤسسات، ووسيلة لممارسة سياسة مضادة لجموحها وطموحاتها إلى منافسة الهيمنة الاميركية القائمة، والدفع بها إلى مزالق التراجع والإنكفاء عن المناطحة للوصول إلى مواقع استراتيجية معينة في العالم وفي طليعتها، الموقع السوري، الذي تحتلّه الآن كمنصّة لإطلاق الصواريخ السياسية والحربية على مواقع السياسات الأميركية ولا مانع لديها في تحقيق ذلك، أن يكون الشعب السوري هو الذي يدفع بدمائه وأرواحه، ثمن الجموح الروسي غير المسبوق. إن روسيا التي استغلت وجود ذلك الرئيس الأميركي الإستثنائي في ضعفه وانكفائه وتردده، تسعى الآن لاستغلال الوقت الرئاسي الضائع في الولايات المتحدة تحسباً لوصول رئيس جديد، يتمتع بقوة في الشخصية والجرأة والإرادة في مواجهة الأخطار والأضرار، التي تواجه الوجود الأميركي في صلب مصالحه ودوافعه وطموحاته المستمرة لركوب مركب الريادة والزعامة المطلقة في هذا العالم، حيث بدأت تطل من بعض أنحائه ملامح منافسة شديدة من مجموعة من الدول التي أخذت تنهض وتتقدم بهذا الإتجاه، وقد جاء على الولايات المتحدة حينٌ من الدهر، وصل فيه إلى موقع القيادة رئيسها الحالي أوباما الذي يستعد للملمة ما تبقى له من موجودات البيت الأبيض، للرحيل بها إلى البعيد البعيد، ومن ضمنها بعض من كرامة الولايات المتحدة وموقعها المتميز في قمة الزعامة الدولية.
وعليه، «شكراً» للقيادة الروسية على اتخاذها موقف المدافع عن سيادات الدول بكلام معسول مفعم بسموم الطموح الإستعماري المستجد لديها، ونشكرها أكثر لو عادت إلى رشدها وسلّمت بأن ما تفعله في هذه الأيام على الأرض السورية المنكوبة هو تصرّف همجي لا يليق لا بالشعب الروسي ولا بالحكومة الروسية بعد أن أضحت مستجدات الإستعمار الروسي الحديث تفوق أي استعمار سبق لهذه المنطقة أن عرفته، متجاوزة كل حدود المعقول والمقبول.