لن تجدي مع روسيا سياسة إعطاء الفرص المتلاحقة٬ فقد ثبت وبات واضًحا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذاهب في ما أقدم عليه حتى تحقيق ما يريده٬ ولعل ما أصبح لا خلاف عليه على الأقل بالنسبة للدول المعارضة لهذا التدخل٬ عربية وغير عربية٬ أن روسيا من قبيل ما يسمى «الهروب إلى الأمام»٬ عازمة على استعادة مكانة الاتحاد السوفياتي في مراحل الحرب الباردة وصراع المعسكرات٬ حتى وإن لم يبَق في سوريا حجر على حجر٬ وحتى وإن تحّولت غالبية شعبها «العرب السنة» إلى لاجئين ومشّردين وتائهين في البحار وعلى طرق الدول الأوروبية والغربية البعيدة.
وهكذا٬ فإن سياسة «الدبلوماسية الناعمة» التي تتبعها الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي٬ وأيًضا بعض الدول العربية٬ لا يمكن أْن تثني بوتين عّما هو مصمم عليه٬ فالواضح أنه بعد تجربة غير مكلفة مع الأميركيين قد تّيقن من أَّنهم في عهد الديمقراطيين والرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته٬ الذي يبدو أنه أصبح لا هدف له في ما تبقى له من العمر والحياة إلا الحصول على جائزة نوبل٬ لا يمكن أن يفعلوا أكثر من التلويح بقبضاتهم عن بعد٬ ولا يمكن أْن يتجاوزوا مجرد الإرغاء
والإزباد٬ ولهذا فإنه٬ أي الرئيس الروسي٬ لا يخشى مناورات «الأطلسي» الاستعراضية الهائلة في البحر الأبيض المتوسط ولا التهديد بـ«إلحاق» بعض دول أوروبا الشرقية بهذا الحلف الذي يبدو أنه أصبح نمًرا من ورق٬ على غرار ما كان قاله زعيم الصين الكبير ماوتسي تونغ الذي كان وصف الإمبريالية الأميركية بأنها «نمٌر من ورق!!».
لقد قال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بعد طول صبٍر واحتمال: إن إيران دولة محتلة٬ وإنها أصبحت تحتل دولة عربية هي سوريا٬ والحقيقة أنها٬ أي دولة الولي الفقيه٬ كانت قد احتلت العراق قبل سوريا٬ وأنها أصبحت تحتل نحو نصف لبنان.
والحقيقة أيًضا أن روسيا بدورها قد أصبحت دولة مهيمنة هي أيًضا٬ وأن وجودها العسكري «المقاتل» في هذا البلد العربي هو أسوأ أشكال وأنواع التدخل!!
إنه لم يعد هناك شٌّك بأَّن روسيا كانت مخادعة وغير صادقة عندما اَّدعت أنها جاءت بجحافلها العسكرية٬ جوية وبرية وبحرية٬ إلى سوريا٬ لمواجهة الإرهاب٬ ومن قبيل «الدفاع الذاتي»٬ ومن قبيل حماية مصالحها القومية٬ كما قال رئيس وزرائها ديمتري ميدفيديف الذي لمُيوضح ما هي هذه المصالح القومية٬ وهل هي داخل هذه الدولة العربية٬ أم أنها هناك في القرم وأوكرانيا أو في روسيا الاتحادية نفسها التي تعاني من أوجاع كثيرة من بينها وجع الأوضاع الاقتصادية المتردية٬ حيث ارتفعت قيمة الدولار الأميركي إلى 95 روبلا؟!
وهنا٬ وإذا كان بوتين٬ ومعه رئيس وزرائه ميدفيديف٬ قد لجأ إلى هذه المغامرة التي إْن هو لم يتدارك الأمور ويضع حًّدا لتدخل روسيا لدولة عربية كانت قد احتلتها إيران مبكًرا بعد احتلال العراق مباشرة٬ فإنه سيأتي اليوم الذي ستنسحب فيه الجيوش الروسية من سوريا انسحاًبا كيفًيا وعلى غرار انسحاب الاتحاد السوفياتي الشهير من أفغانستان.. والأيام قادمة.. وإَّن غدا لِناِظره قريب!!
إنه من الأفضل للرئيس الروسي أْن يدقق في عبر التاريخ وأن يتعلم منها.. وإن أول ما يجب أن يتعلمُه من هذه العبر هو أن هذه البلاد العربية٬ ومن بينها سوريا التي كانت وستبقى «قلب العروبة النابض» قد مَّر عليها غزاة كثيرون٬ وأنهم غرقوا في أوحالها وفي رمالها المتحركة٬ وهكذا وبالتالي فإنه إْن لم يسارع إلى الاكتفاء من الغنيمة بالإياب فإنه كثيرا.
لقد ثبت حتى الآن٬ والواضح أن هذا سيستمر حتى النهاية٬ أَّن دافع هذا التدخل الروسي في هذه الدولة العربية٬ التي من المفترض أنها مستقلة وذات سيادة٬ ليس مواجهة الإرهاب و«داعش» كما اّدعت روسيا سابًقا ولاحًقا ولا تزال تدعي حتى الآن٬ وإنما مواجهة المعارضة السورية (المعتدلة) والجيش السوري الحر٬ وبالتالي مواجهة الأغلبية السورية (العرب السنة) واستهداف مدنها٬ حمص وحماه وحلب وإدلب٬ والواضح أن المقصود هو تهجير هذه الأغلبية واقتلاعها من وطنها ورميها على الحدود والدليل هو «المنشورات» التي ألقتها الطائرات الروسية على هذه المدن٬ وتحديًدا على حلب (الشهباء) والتي تطالب سكانها بترك كل شيء والرحيل العاجل والالتحاق بطوابير وقوافل اللاجئين الذين غادروا إلى المجهول وابتلعت الآلاف منهم أمواج البحر الأبيض المتوسط.
ما معنى كل هذا؟ ألا يعني أن هناك مخطط تهجير جماعي لـ«العرب السنة» وأن المقصود هو الإخلال بالتركيبة السكانية لبلد أوصل الذين يحكمونه حكمه إلى الإيرانيين وإلى حزب الله اللبناني وإلى الشراذم الطائفية التي تم استيرادها من أربع رياح الأرض ومن كل أصقاع الدنيا٬ وأخيرا إلى التدخل الروسي؟!
إن هذا هو واقع الحال في الحقيقة٬ وهي حقيقةُمّرة٬ حيث باتت سوريا (القطر العربي السوري) محتلة من قبل إيران٬ ومتدخل فيها من قبل روسيا٬ ومحتلة من قبل شراذم طائفية حاقدة٬ وهذا ما يجب أن تفهمه الدول العربية كلها٬ وخاصة أن هناك مثلاً عربًيا يقول: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»٬ وخاصة أَّن دولة الولي الفقيه لم ُتْخِف أطماعها في هذه المنطقة٬ وأن بعض قادتها ورموزها الكبار كانوا قد تحدثوا ومراًرا عن أنهم سيستعيدون «أمجاد» فارس٬ وأَّن بغداد أصبحت مجدًدا ومن جديد عاصمة الدولة الساسانية الفارسية التي كان العرب قد اقتلعوها من جذورها التي كانت ضاربة في عمق أرض ما كانت أرًضا فارسية ولن تكون أرًضا فارسية.. وهذه الأيام بيننا!!
ولذلك٬ وما دامت هذه هي توجهات روسيا٬ وأن هذه هي دوافع تدخلها الفعلي لهذه الدولة العربية٬ هذا التدخل الذي استكمل احتلال إيران وعززه٬ فإنه من غير الممكن استدراج الرئيس بوتين إلى الدائرة العقلانية وإقناعه بأن الأفضل له ولروسيا الاكتفاء من الغنيمة بالإياب والانسحاب من سوريا قبل أن يصبح مصير القوات الروسية كمصير القوات السوفياتية التي خرجت من أفغانستان مهزومة ومشتتة٬ وكانت النتيجة أن انهيار الاتحاد السوفياتي٬ حيث طوى التاريخ هذه الصفحة البائسة وإلى الأبد.
ثم٬ وإن هناك أيًضا مثلاً يقول: «لا يفُّل الحديد إَّلا الحديد»٬ فعلى الداعمين حًقا للشعب السوري وللمعارضة السورية (المعتدلة) أن يكّفوا عن محاولات إقناع الرئيس فلاديمير بوتين٬ وبالتي هي أحسن بترك سوريا وشؤونها وشجونها وسحب القوات الروسية من هذه الدولة العربية٬ وأن يتعاملوا مع هذا المأزق التاريخي بالمزيد من الجدية.. والمقصود بالجدية هو الموقف الجاد من حيث التعاطي مع الاحتلال الإيراني والتدخل الروسي في هذا البلد العربي. وهناك عدة طرق للتعامل مع هذا الأمر٬ منها ضرورة إقامة المناطق الآمنة للمهجرين السوريين٬ إن في المناطق الحدودية التركية – السورية٬ وإن في مناطق حدود الأردن الشمالية مع الشقيقة المجاورة٬ ودعم المعارضة المعتدلة.