Site icon IMLebanon

روسيا وتجاذباتها السورية مع تركيا وإيران

 

لن تكون أجواء اجتماع استانا/ نور سلطان مطلع الشهر المقبل على ما ترومه روسيا مع شريكتيها تركيا وإيران، وإن حافظت الدول الثلاث على مظاهر التوافق. في الاجتماع السابق كان التوتّر الروسي – التركي بلغ درجة حرجة، مع تكاثر مآخذ موسكو على “عدم التزام” أنقرة تعهّداتها في الاتفاق على ترتيب الأوضاع في إدلب (17 أيلول/ سبتمبر 2018): لم يتمّ احتواء “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة (سابقاً)”، ولا تأمين المنطقة منزوعة السلاح، ولا التخلّص من الفصائل “القاعدية”، ولا تفعيل سيطرة فصائل “الجبهة الوطنية للتحرير” على عموم محافظة إدلب. هذه المرّة لا يقتصر الأمر على مجرّد مآخذ، فالروس والأتراك يتواجهون عسكرياً لكن بالوكالة في شمال غربي سورية، ولم تعد فصائل إدلب متربصة ببعضها بعضاً بل مقاتلة معاً ضد قوات النظام أو بالأحرى ضد الفيلق الخامس الذي أنشأه الروس واعتمدوه، لكن النظام لا يعتبره من صلبه. ونظراً الى الهزائم التي تعرّض لها “الفيلق” اضطر الروس لرفده بمقاتلين مما تُسمّى “مناطق المصالحات” (خصوصاً درعا ومحيطها)، وقد قُتل عدد كبير من هؤلاء لأن “الفيلق” وضعهم في الخط الأول للقتال تخفيفاً لخسائره، وحين انكشف ذلك بدأت تُسجّل انشقاقات في صفوف هؤلاء.

 

 

كان واضحاً أن روسيا هي التي أرادت التصعيد في الشمال الغربي وحدّدت له أهدافاً أقلّها تغيير الواقع في أطراف إدلب بقضم أجزاء منها. إذ احتاجت موسكو لانتصارات قبيل محادثات مهمّة مع الاميركيين والإسرائيليين في اجتماع مسؤولي الأمن القومي في القدس، وقبيل لقاء الرئيسين الأميركي والروسي في اوساكا على هامش قمة العشرين، كما أظهرت المواجهة أن موسكو لا تريد الذهاب الى أي مفاوضات مقبلة من دون أن تكون هناك “أفضلية للنظام” ولا تتصوّر تقدماً في مسار الحل السياسي من دون سيطرة النظام على إدلب، لكنها واجهت صعوبات ميدانية تتعلّق بالطبيعة الجبلية للمنطقة وتكتيك “حرب العصابات” كما فوجئت بالقتالية التي أبدتها الفصائل والأسلحة النوعية الذي استخدمتها. وحتى في الاجتماعات الثنائية لمناقشة شروط وقف اطلاق النار لم يجد الروس استعداداً تركياً للتنازل. عدا ذلك، كان ولا يزال مهمّاً بالنسبة الى الروس تأمين قاعدتهم في حميميم بعدما أصبحت في الشهور الأخيرة عرضة لضربات يومية.

 

الجديد لدى ثلاثي استانا هو تقلّبات باردة – ساخنة تشهدها العلاقة بين روسيا وايران. تُعزى الأسباب الى اهتزاز الثقة بين الجانبين، إذ انتقلت طهران من الشك والارتياب في التنسيق الأميركي – الروسي – الإسرائيلي الى تحفّز لاستهدافها، كما أنها رأت في اغلاق المنفذ العراقي – السوري أمام ميليشياتها استجابة روسية لمطالب أميركية. لذلك ترجمت طهران استياءها العميق من موسكو بإجراءات مضادة: الامتناع عن دعم مقاتلي “الفيلق الخامس” في معاركه في ريف حماة على رغم الإلحاح الروسي، وتعزيز التقارب مع انقرة على قاعدة اعتراف غير معلن بنفوذ تركيا ومصالحها في سورية، تركيز وجود ميليشياتها وأنشطتها في دمشق وحلب والبوكمال والجنوب (تحسّباً لاشتباك مع إسرائيل)، وتكثيف احتضانها لرئيس النظام وبالأخص للفرقة الرابعة والحرس الجمهوري…

 

في الآونة الأخيرة ارتفع منسوب التشنّج بين الروس والإيرانيين فتعددت الإشكالات والاحتكاكات في مناطق متفرقة، سواء على الحواجز المسلّحة أو بالاشتباه بعبوات ناسفة تستهدف دوريات روسية. وإذ جاءت التعيينات والمناقلات لرؤساء أجهزة النظام على النحو الذي أرادته موسكو، فقد شعرت طهران أن حلفاءها هم المستهدفون في عملية “اصلاح” المنظومة الأمنية التي يجريه الروس. فهناك ضباط عديدون قريبون منها فقدوا مراكزهم ولم يشر اليهم في الإعلام (منهم قيس فروة الذي كان اليد اليمنى لجميل الحسن في قيادة مخابرات القوات الجوية)، أما الذين أعيد تعيينهم فبات سلوكهم تحت الاختبار ولا يتحسّس الروس من ولاء هؤلاء لبشار الأسد بل يفترضون أنه أيضاً ولاءٌ لهم، إسوة بما أبداه ضباط مثل كفاح ملحم (الأمن العسكري) الذي صار ولاؤه للروس بمثابة عداء سافر لإيران. ولم يمضِ وقت طويل على إقالة غسان بلال الذي كان رئيس أركان المنطقة الجنوبية ومنسّقاً متعاوناً مع الإيرانيين.

 

على خلفيةٍ كهذه وصل وفد روسي الى طهران قبل أيام، وقالت مصادر أنه الأول من نوعه المكلّف مناقشة ملف بالغ الحساسية: الوجود الإيراني في سورية، وهو لا ينطوي على بحث في علاقة الطرفين فحسب بل يرمي الى رسم أفق وحدود لدور إيران. مهمة غير سهلة لكنها غير مستحيلة في آن، ولا شك أنها مرتبطة عند الإيرانيين بالنتائج العملية لاجتماع القدس (جون بولتون، نيكولاي باتروشيف ومئير بن شبات). لم يقل الروسي آنذاك إلا كل ما يريح طهران، خصوصاً عن مساهمتها في “محاربة الإرهاب”، لكن الأميركي لم يحضر لسماع ذلك بل لأن الإسرائيلي أقنعه بأن الروسي يسعى جدّياً الى إذابة الجليد الذي تكاثف بين موسكو وواشنطن منذ لقاء فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في هلسنكي (أوائل آب/ أغسطس 2018)، وقد توافقا خلاله كليّاً وعلناً على “أمن إسرائيل” واختلفا جزئيّاً وعلناً على “إخراج إيران من سورية”. إذن، هذه هي المسألة التي ترقّب الأميركي والإسرائيلي ما يحمله الروسي في شأنها.

 

ما فُهِم بعدئذٍ أن باتروشيف جاء باقتراحات إجرائية يمكن ادراجها في تقليص نفوذ ايران أما “إخراجها” من سورية فتُرك لمحادثات الرئيسين في اوساكا. ويبدو أن أقصى ما تعهّده بوتين كان العمل لإقناع ايران بسحب مقاتليها (يقدّرهم الروس بـ 102.000) تباعاً مع ضمانات بالحفاظ على مصالحها كما عرض تسريع الاتفاق مع الأمم المتحدة على اللجنة الدستورية. في المقابل وافق ترامب على “تسهيلات” طلبها بوتين تخفيفاً للضغط على الأسد ونظامه. وقد سمعت دمشق لاحقاً من بعض الموفدين العرب أن واشنطن تدرس إمكان التساهل ببعض التجاوز للعقوبات (لكن ليس الى حدّ تمرير ناقلة النفط الايرانية “غريس 1” عبر جبل طارق)، كما أنها تنظر في تقليص جزئيّ لـ “الفيتو” على “التطبيع” العربي مع النظام. غير أن النظام لم يتلقَ “الضمانات الأميركية” التي ينتظرها منذ أعوام بالنسبة الى مستقبله، وليس متوقّعاً أن ينالها، إذ أن واشنطن التي لم تعد تطالب برحيل الأسد لا تزال تتطلّع الى حل سياسي يحدّ من صلاحياته.

 

توصّل المبعوث الأممي غير بيدرسون الى حلٍّ لعقدة اللجنة الدستورية في موسكو، قبل أن ينتقل الى دمشق ليتبلّغ موافقتها على الصيغة التي اقترحها الروس. ويبدو أنه استمزج الاميركيين مسبقاً واستنتج أنهم لا يمانعون أن تسمّي موسكو أربعة من الأسماء الستة المختلف عليها (من أصل 150) وأن تختار الأمم المتحدة الاسمَين المتبقيين. في النهاية كان هذا الخلاف شكلياً، لكن الروس ضخّموه لفرض ارادتهم فتأخّر حلّه، وانتهز النظام هذه المماطلة فاستخدمها ليضيّع ما يقرب من عام، وعندما جاءته التعليمات الروسية أوحى بأنه يتعاون بإيجابية مع بيدرسون. لكن ثمة مسائل لا تزال عالقة قبل أن ينطلق عمل اللجنة، منها رئاستها المشتركة (نظام ومعارضة)، ومرجعيتها التي يفترض أن تؤول الى القرار 2254 الذي يشير الى دستور جديد وليس الى تعديل للدستور الاسدي، وطريقة التوافق على مواده إذ يطالب النظام بأن تكون بنسبة 75 % من أعضاء اللجنة، وأخيراً مسألة القبول الشعبي وسط رفض مسبق ومفهوم لـ “استفتاء” على النمط الذي اعتاد النظام تلفيقه.

 

أما لماذا تخلّى الجانب الأميركي عن شروطه بالنسبة الى الأشخاص الستة، المعروفين بأنهم عملوا أو يعملون في صفوف النظام، فتعتبر مصادر في المعارضة أن واشنطن وموسكو تعوّلان على ما تتفقان عليه وليس على المداولات في اللجنة الدستورية، خصوصاً بالنسبة الى المواد المتعلّقة بالصلاحيات الرئاسية، أو الشخصية التي سيتوافقان عليها لإدارة الحكم، وكذلك الإجراءات المطلوبة لخلق بيئة مناسبة لإجراء انتخابات حرّة وسليمة. أي أن الحل السياسي سيتبلور وفق تفاهماتهما وقدرة روسيا على ضبط سلوك النظام في المرحلة المقبلة من جهة، وتحقيقها تقدّماً في ملف الوجود الإيراني في سورية من جهة أخرى. وبديهي أنها لا تتعامل مع هذا الملف استجابةً للرغبات الأميركية فحسب بل وفقاً لمصالحها ومتطلبات دورها في سورية.