ليس من الدهاء المضي في التعمية على اللبنانيين، فالحديث المتنامي عن انهيار المبادرات الخارجية والداخلية الواحدة تلو الأخرى لم يعد كافيا لإقناع اللبنانيين بنصرة جهة او شخص على آخر. فانعدام الثقة اقترب من ان يكون شاملا للمواقع الرسمية والحزبية، لتنتصر نظرية «إشتدي يا أزمة تِنفرجي» في مواجهة أخرى تسأل، ماذا لو «انفجرت»؟ وما بين الخيارين ما الذي يمكن ان يقال؟
لا يمكن لأيّ مراقب يتابع التطورات الجديدة التي رافقت اجتماعات موسكو بين وفد «حزب الله» والمسؤولين الروس، وفي مقدمهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، إلّا ان يترقب مزيداً من حالات التشنج على الساحة اللبنانية، وخصوصا على مستوى المساعي المبذولة لتشكيل الحكومة. فهذه اللقاءات جاءت في توقيت دقيق، وخاصة ان تمكنت موسكو من تحقيق ما فشلت عن تحقيقه المبادرات الخارجية والداخلية المختلفة التي انهارت واحدة بعد أخرى.
فالإعتقاد الذي يسود لدى طبّاخي التشكيلة الجديدة هو انه من السخف ان يتوافر الإقتناع لديهم بأنّ العقدة الحقيقية تكمن عند ما هو معلن من عقبات، يتصل بعضها بطريقة توزيع بعض الحقائب السيادية والامنية. ذلك ان العقدة الاصعب هي في مكان آخر. وانّ ما تقوم به موسكو يلامس إحداها والأكثر حساسية ودقة وهي المتمثلة بدور «حزب الله» وحضوره في الحكومة العتيدة. كما بالنسبة الى طريقة تصرفه في المرحلة المقبلة ان شكّلت الحكومة التي تتطابق مع المواصفات التي حددها المجتمع الدولي او لم تشكل على هذه الصورة. وهو ما يشكّل ترجمة لإمكان إبعاد لبنان عن حريق المنطقة بدل ان يقال بالعودة الى منطق او لغة «النأي بالنفس».
ففي رأي المراقبين انّ نجاح موسكو محتمل لمجرد إقدامها على ملامسة ملف بهذه الدقة لمجرد انها لامست دور الحزب، وهو ما سيؤدي حتما الى إسقاط بقية الشروط الشكلية التي استعصت على المبادرات الداخلية، ولا سيما منها تلك التي استهلكت كثيراً من الجهد بما يتصل بطريقة توزيع بعض الحقائب الوزارية. ولذلك، فقد شكلت محطة مفصلية في معالجة العقدة التي لا يستطيع اللبنانيون حلها، طالما انهم يحاذرون او يخشون او عاجزون عن مواجهتها.
وان توقف المراقبون امام المحطتين لا يمكنهم تجاهل كونها محطة مفصلية للتأكد مما تسرّب من الاجتماع الأول عن موقف القيادة الروسية وحجم استعداداتها للتدخل في الملف الحكومي انتصاراً لجزء او ما تبقى من «المبادرة الفرنسية» لجهة شكل «حكومة المهمة» وخلوّها من اي حزبي. وهو ما كان يخشاه بعض اللبنانيين، ولا سيما منهم الذين توجّسوا من دور الحريري والحجم الذي يمكن ان يشكله في المرحلة المقبلة، وما يمكن ان ينجزه في حال نجح في تشكيل الحكومة التي تتطابق في شكلها ومضمونها مع المواصفات المطلوبة غربيا وعربيا وخليجيا.
على هذه الخلفية يصرّ العارفون على انه من الضروري انتظار ما يمكن ان تنتهي اليه لقاءات موسكو، وخصوصاً اذا نجحت في توفير المخرج الذي يمكن ان يقبل به المجتمع الدولي لشكل التمثيل الشيعي ومضمونه في الشق المتصل بوزيري «حزب الله»، وما يمكن ان تحققه الحكومة لإبعاد لبنان عن لهيب المنطقة وإخراجه من أتون المواجهة المفتوحة على ساحته التي تم الربط في ما بينها وساحات المنطقة من سوريا الى اليمن. وان نجح الروس في توفير المخرج، فهناك تجربتان ناجحتان يمكن التوقف عندهما، وقد سبق ان اعتُمدا في الحكومتين السابقتين. فالتجربة التي طبّقت في وزارة الصحة، والتي سمّيت «تجربة جميل جبق» قبل تجربة «حمد حسن»، يمكن تكرارهما في اي وقت من دون أن يسجّل لا الاميركيون ولا السعوديون ومعهما المجتمع الدولي أي ملاحظة سلبية.
والى هذه العقدة المتصلة بتشكيلة الحكومة وحصة «حزب الله» ودوره فيها، هناك في الموقف الروسي من ملف التأليف ما أحيا القلق لدى فريق رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» وحلفائهما نتيجة التشديد الروسي على عدم البحث في اي صيغة حكومية لا يكون سوى الحريري من يشكّلها. وهو ما قرأه المتابعون – ممّن رحّبوا او استهجنوا الإصرار الروسي على دور الحريري شخصياً ـ فقد اعتمدت العبارات عينها في بيانَي وزارة الخارجية الروسية اللذين صدرا عقب اجتماعي ابو ظبي وموسكو. وان أضيفت بعض الملاحظات المستحقة، فإنّ اشارة بيان لقاء «ابو ظبي» كانت أوضح في ملامسة العقدة القائمة بين بعبدا و»بيت الوسط» عندما لمّح الى مهمة الكتل البرلمانية اللبنانية في تسمية الحريري لتأليف الحكومة رغماً عن إرادة رئيس الجمهورية ورئيس «التيار الوطني الحر».
وان قال البعض الذي يشكّك بهذه النظرية، انّ كتلة نواب «حزب الله» لم تسمّ ايضاً الحريري في تلك الاستشارات، فقد فاتهم انّ ما جرى هو عملية روتينية. فكتلة «الوفاء للمقاومة» لم تسمّ الحريري سوى في استشارات واحدة أعقبت التسوية السياسية عام 2016 التي جاءت بعون الى بعبدا رئيساً للجمهورية واعادت الحريري الى السرايا الحكومية. وخلاف تلك المحطة لم يسمّ الحزب الحريري يوماً، لكنه عاد ومنحه الثقة في مجلس النواب بعد مشاركته في الحكومة مباشرة او بطريقة مبطنة، وهو ما لا ينطبق على موقف «التيار الوطني الحر» الذي لم يسمّ الحريري في الإستشارات الاخيرة ويهدد بعدم منحه الثقة ايضاً، وهو ما قد يؤدي الى تعطيل بعض التفاهمات مع رئيس الجمهورية، والتي حكمت المرحلة الأخيرة.
على هذه القواعد، تختلف القراءات حول مصير «الطحشة الروسية» التي لم يظهر انها خرجت عن مفهوم الفرنسية بمقدار ما أوحَت بوجود نقاط تفاهم بين باريس وموسكو شجّعت عليها تفاهمات أخرى لا يمكن احد تجاهلها. فواشنطن ومعها عواصم خليجية والقاهرة اصطفوا الى جانب الفرنسيين في العمل لترجمة الصيغة المقترحة، ومَن راقبَ مواقف هذه الدول لا يمكنه تجاهل هذه الملاحظات او إهمالها بمقدار ما يمكن البناء عليها لتعطيها مزيداً من الصدقية التي تعزز احتمالات ترجمتها في وقت قريب.
وختاماً، لا بد من الإشارة الى انّ حسم هذه الجهود المبذولة لم يتحقق حتى اليوم، فحال التوتر التي تعيشها الساحة اللبنانية نتيجة الغليان النقدي والمالي الذي ترجمه انهيار الليرة اللبنانية الى سقوف لم يتصورها احد في اي لحظة تَشي بالعكس. وهي ان أوحَت انّ التوتر قد بلغ الذروة، فهناك من يعتقد بالمثل الشعبي القائل: «اشتدي يا ازمة تِنفرجي»، فماذا لو حصل العكس فكان الإنفجار بدلاً من الانفراج؟.
السلطة تؤسس عن قصد او غير قصد بما تبقى لها من قدرات لانتفاضة شعبية قد لا توفر أحداً منها؟!