تحدث الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، عن الهدف الجديد الذي وضعه العدو وحلفاؤه العرب في سوريا. والذي يتركز على سبل إنهاء الوجود العسكري لإيران وحزب الله هناك. ومع تشديده على أن قرار بقاء قوات الحزب أو خروجها من سوريا رهن قرار القيادة السورية. لكنه بعث برسالة إلى جميع من يهمه الأمر بالقول، إنه من دون طلب دمشق، لن يقوى العالم كله على إخراج المقاومة من هناك.
الجميع، فهم أن الرسالة ليست موجهة فقط إلى أعداء محور المقاومة من الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل وحلفائهم العرب، بل هي موجهة أيضاً، إلى «من يظن» أنه بالإمكان إخراج المقاومة عنوة، فكيف إذا كان الهدف «تحقيق مطلب الأعداء». ومن دون لف ودوران، تصرف الجميع على أن الجديد في الموقف هو رسالة ضمنية موجهة إلى روسيا.
قبل هذا الموقف، حصلت تطورات خلال الأسابيع الأربعة الماضية، بدأت ليلة التاسع من أيار بالهجوم الصاروخي على مواقع العدو في الجولان السوري المحتل، ثم إعلان السيد نصرالله نفسه، بعد أيام أن القصف وضع قواعد اشتباك جديدة مع العدو في سوريا. وبعدها بيومين، لبى الرئيس السوري بشار الأسد دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى لقاء في سوتشي، قال فيه الأخير إنه «مع تحقيق الانتصارات الكبرى والنجاحات الملحوظة من قبل الجيش العربي السوري في الحرب على الإرهاب ومع تفعيل العملية السياسية لا بد من سحب كل القوات الأجنبية من الأراضي السورية». وفي وقت لاحق، شرح المبعوث الخاص للرئيس الروسي لشؤون التسوية السورية، ألكسندر لافرنتييف مقاصد بوتين بالقول: «هذا التصريح يخص كل المجموعات العسكرية الأجنبية، التي توجد على أراضي سوريا، بمن فيهم الأميركيون والأتراك وحزب الله والإيرانيون».
القوى الخارجية الداعمة للإرهابيين عطّلت مساعي التسوية في الجنوب السوري، وهو أمر لمسه الوسيط الروسي
وبالأمس، قال الرئيس الأسد لصحيفة «ميل أون صنداي» البريطانية إنه «وبسبب وجود الحرب ووجود درجة عالية من الديناميكية الآن في المنطقة من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات بين مختلف الأطراف، سواء داخل حكومتنا أو بين الحكومات الأخرى، بين روسيا وسوريا، أو سوريا وإيران، أو إيران وروسيا، وداخل هذه الحكومات، هذا طبيعي جداً، لكن في المحصلة، فإن القرار الوحيد حول ما يحدث في سوريا وما سيحدث، هو قرار سوري».
الواضح، أننا أمام لحظة جديدة في المشهد السوري. لكن الوقائع، لا تخدم التمنيات المتنامية لدى أعداء محورالمقاومة، حول ما يفترضونه بداية أزمة في العلاقات بين روسيا وسوريا وإيران وحزب الله في شأن مسار الأمور في سوريا. ذلك أن ما يحصل هناك حالياً، يعيد تفسير الأمور في شكل أوضح:
عندما قررت روسيا الانضمام إلى الحملة العسكرية الداعمة للجيش السوري في وجه الإرهابيين وداعميهم، لم يكن حزب الله، ومعه إيران، يتصرفان على أساس أن موسكو صارت جزءاً من محور المقاومة. بل هي جزء من تحالف سياسي – عسكري هدفه منع إسقاط الدولة السورية بيد الأعداء المشتركين لجميع أطراف هذا التحالف. وقد جرى توزيع العمل بين الجميع بما ساعد في استعادة الجيش السوري سيطرته على غالبية الأراضي السورية، وعودة السلطة المركزية للإشراف على حياة أكثر من تسعين في المئة من المقيمين في سوريا.
تقدم الجيش السوري دفع بالدول الداعمة للإرهابيين، من تركيا إلى الولايات المتحدة إلى بريطانيا وفرنسا للحضور العسكري المباشر. وهو ما أثر في شكل واضح في مسار العمليات العسكرية في مناطق شرق وشمال وشمال غربي سوريا، لكن برنامج النظام لاستعادة السيطرة على كامل البلاد لم يتوقف، سواء بالحرب أم من خلال توافقات سياسية إقليمية ودولية تجنب البلاد المزيد من الحروب. وهو ما كرّسته عملية تحرير كامل دمشق وأريافها إضافة إلى ريفي حمص وحماة.
بعد معركة الغوطة واليرموك، اتجهت الأنظار صوب الجنوب، خصوصاً المناطق الواقعة تحت سيطرة المسلحين من جنوب شرقي السويداء نزولاً صوب درعا ومحيطها وصولاً إلى القنيطرة والحدود مع لبنان وفلسطين. بدا واضحاً وجود قرار حاسم بخوض هذه المعركة، والهدف هو تعزيز الأمن في عمق دمشق الجنوبي، ومنع أعداء سوريا من استخدام هذه المناطق لتعريض دمشق وريفها لاعتداءات إرهابية. كذلك، لأجل استغلال زخم نجاحات الجيش السوري في دفع المسلحين والأهالي في هذه المنطقة للسير في تسوية تعيد هذه المنطقة إلى سيطرة الدولة السورية.
خلال وقت قصير، أظهرت الاتصالات وجود استعداد جدي من جانب مجموعات كبيرة من المسلحين، التابعين لجيش الإسلام والجيش الحر وجبهة النصرة، لعقد تسويات ينتقلون بموجبها إلى منطقة السيطرة التركية في محافظة إدلب. بينما كانت هناك إمكانية حتى لحسم الأمر مع مجموعات «داعش»، إما بتصفيتها أو إخضاعها لتسوية كالتي حصلت، ولو من دون إعلان، في مخيم اليرموك وبعض بلدات جنوب دمشق، حيث تم نقل المسلحين إلى مناطق البادية شمال شرقي سوريا. وترافق الاستعدادات للتسوية في الجنوب، مع حماسة رسمية أردنية لعقد تفاهم مع الجيش السوري ينتشر بموجبه على الحدود بين البلدين وفتح المعابر البرية، وبدء حوار بين الجانبين هدفه إعادة النازحين السوريين من الأردن إلى ديارهم.
يريد العدو إبقاء الجولان تحت الاحتلال وأن يتولى الجيش السوري حراسة المنطقة الجنوبية
ما حصل هو أن القوى الخارجية الداعمة للإرهابيين قامت بتعطيل هذه المساعي في الجنوب، وهو أمر لمسه الوسيط الروسي مباشرة. حيث لا يزال السعوديون ومعهم دول خليجية يكابرون، ويعتقدون بإمكانية توحيد هذه الجماعات ودعمها لشن هجوم جديد على دمشق. كما أن واشنطن لا تدعم خطوة من شأنها تعطيل دور قواتها الموجودة في قاعدة التنف، وهي لا تريد الانسحاب قسراً من هذه المنطقة، على أن عنصر الضغط المركزي جاء من إسرائيل، التي لا تريد عودة الدولة السورية إلى كامل الجنوب السوري من دون تسوية توفر لها ما تطلبه من ضمانات أمنية وعسكرية وسياسية.
عند هذه النقطة تحديداً، بدأت الضغوط الإسرائيلية والأميركية والغربية على روسيا، لأجل ترتيب تسوية سياسية – عسكرية كبرى تواكب إلى خطوة تهدف إلى استعادة دمشق لسيطرتها على أراضيها في تلك المنطقة. وقد رفع العدو شعاره الجديد: منع تمركز أو تواجد إيران وحزب الله في هذه المنطقة. وأظهر العدو استعداداً لعقد صفقة كبرى، تقضي بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة السورية على كامل حدود وقف إطلاق النار الخاص بالعام 1974. وكان العدو، يقول، إنه يقبل الهزيمة بفشل مشروع إسقاط النظام، ويقبل أيضاً بطرد المجموعات المسلحة، شرط أن تكون عودة القوات الحكومية السورية غير متأثرة بكل ما حصل في السنوات الماضية. مع سعي إلى ضمانة روسية مباشرة وعملانية لترتيبات ميدانية تحقق المطالب الإسرائيلية بالآتي:
1- إعلان رسمي بأن مناطق الجنوب غير مفتوحة لأي قوات غير قوات الحكومة السورية، وضمن عمق يصل إلى حدود العاصمة دمشق. وفي هذا السياق يريد العدو، سياقاً يجعل أي حضور أو تواجد لقوى المقاومة هناك، بمثابة خرق للإعلان، ما يعطيه الحق بالتصرف الميداني مباشرة. أي عملياً، يريد العدو إبقاء الجولان تحت الاحتلال وأن يتولى الجيش السوري حراسة المنطقة الجنوبية. مع إبقاء حق إسرائيل بالتحرك عندما ترى ذلك مناسباً.
2- أن تضمن روسيا من خلال تواجد عسكري وأمني لها، عدم اقتراب أي مجموعة مسلحة إلى تلك المنطقة، مع التأكيد على أن إسرائيل تريد العودة إلى جميع قواعد اتفاقية فك الاشتباك الخاصة بالعام 1974 لناحية تحديد طبيعة وحجم انتشار القوات السورية في تلك المنطقة.
3- تريد إسرائيل، أن تحتفظ بحقها في القيام بالعمليات الأمنية وحتى العسكرية التي تعتبرها ضرورية لمواجهة ما تسميه عملية انتقال «أسلحة خاصة أو كاسرة للتوازن» إلى المقاومة في لبنان.
4- أن تعمل روسيا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية والأردن على خلق وقائع توفر هذه الضمانات على طول الحدود الجنوبية لسوريا. وأن تراعي التسوية مطالب المجموعات المسلحة أو المعارضة في تلك المنطقة والتي تطالب بأن يحصل وقف لإطلاق النار من دون إلزامها بمغادرة المنطقة أو تسليم الأمور كافة إلى السلطات السورية.
يتضح من سياق الاتصالات أن العدو، كان يراهن على أمرين، الأول، أن النظام في سوريا يخشى دخول مواجهة مباشرة مع قواته، وأنه سيتعرض لضربات قاسية إن وقعت المعركة. كما يراهن على أن الدولة السورية في حالة إعياء لا تستطيع معها التقيد بالتزامات من النوع الخاص ببرامج عمل قوى المقاومة. وعندما عمل العدو على توجيه سلسلة من الضربات لمواقع قال إن الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله يستخدمها لأغراض عسكرية، فهو كان يعتقد بأن الرد لن يكون بالحجم الذي يفرض قواعد اشتباك جديدة. وهو هنا، راهن على أن الموقف الروسي من شأنه تعطيل أي قرار من الرئيس الأسد بدعم ما تقوم به المقاومة هناك.
تعرف تل أبيب أن دمشق ليست في وارد التفاوض معها. لذلك توجهت إلى الروس، طلباً لعونتهم، من منطلق أن موسكو تهتم بعدم نشوب مواجهة كبرى تطيح بإنجازاتها التي تحققت منذ التدخل العسكري المباشر أواخر العام 2015. وعرضت هذه التسوية التي تحقق مطلب الدولة السورية في الجنوب، لكنها تحقق لها مطلبها بمنع أي تواجد لإيران أو حزب الله هناك. الواقع، أن روسيا لم تعارض الاقتراح الإسرائيلي، وسعت لإقناع الرئيس الأسد بالأمر، من زاوية أنه يمكن استعادة الاستقرار في سوريا من دون التورط في توتر مع إسرائيل يؤدي إلى مصاعب كبيرة.
وبينما كان محور المقاومة بالاتفاق مع الرئيس الأسد يثبت قواعد الاشتباك الجديدة، بما فيها الجاهزية لمواجهة حرب واسعة مع العدو، كانت روسيا تعمل على خلق نقاش داخلي في سوريا بقصد مساعدتها على إقناع الأسد بالسير بالأمر. وفي هذا الإطار، سُمعت أصوات لمسؤولين سوريين من مستويات مختلفة، تطرح الأمر من زاوية أن مستقبل المعارك في سوريا قد لا يحتاج إلى تواجد الإيرانيين أو المجموعات العسكرية التي أتت مع الحرس من أفغانستان والعراق. لكن هذه الشخصيات لم تتطرق إلى حزب الله بصورة شبيهة بمقاربة دور هذه المجموعات، وإن ردد البعض أن للحزب مصالح استراتيجية على الحدود مع لبنان، وأنه بالإمكان توفيرها بالتوافق معه.
الأسد ليس في وارد أيّ اتفاقية تضمن أمن إسرائيل، لكنه لا يمانع أي خطوة تعزز سيطرة الدولة
من جهته، لا ينظر الأسد إلى الأمر على هذا النحو. هو أولاً، لا يرى أن الحرب في مواجهة الإرهاب ستنتهي في وقت قريب. وهو يعي، كما القيادة العسكرية والأمنية السورية، حجم الدور الذي يلعبه حزب الله والمجموعات الحليفة في معظم المناطق السورية. كما أن الأسد ومعه الروس، يعرفون أهمية العنصر البشري في هذه الحرب. حتى أنه عندما قررت مجموعات من المقاومة تخفيف تواجدها في بعض مناطق الشرق السوري خلال الأسابيع الأخيرة، وباشرت تنفيذ الأمر، استغلت مجموعات من «داعش» الخطوة وبادرت إلى هجوم كبير أوقع شهداء كثراً بين عناصر الجيشين السوري والروسي.
كما أن الأسد، عندما ينظر إلى الأمر، فهو يناقشه ليس فقط من زاوية الحاجات التكتيكية القريبة الأجل، بل هو أكثر من يعي ارتباط الأمور بالوضع الاستراتيجي في المنطقة. وهو لا يحتاج لمن يشرح له أن إسرائيل كانت ولا تزال أصل البلاء. وهو أكثر العارفين بالدور الميداني والسياسي الذي يلعبه العدو منذ بدء الأزمة السورية. إضافة إلى كل ذلك، فإن الأسد كان صريحاً مع محاوريه، بأن خياره بالانخراط في معركة المقاومة، ليس خياراً تكتيكياً، وأن سوريا دفعت ثمن هذا الالتزام، وأن قوى المقاومة في لبنان وإيران والعراق لم تخذله، بل وقفت إلى جانبه وقدمت الكثير لأجل منع سقوط النظام.
ثمة عناصر كثيرة تجعل الأسد غير خاضع لهذا البرنامج، لكن للأسد طريقته في معالجة الأمر. هو حتماً ليس في وارد أي اتفاقية تضمن أمن إسرائيل. لكنه، لا يمانع من أي خطوة تعزز سيطرة الدولة. وفي هذه النقطة، هو لا يحتاج إلى نقاش طويل مع الحلفاء، سواء إيران أو حزب الله للقيام بالترتيبات اللازمة لإنجاز الأمر. وهنا تدرك القيادة السورية، كما العدو، أن محور المقاومة لا يحتاج إلى تمركز عسكري على تخوم الجولان لإدارة معركة هذه الأرض المحتلة، وأن مقتضيات المواجهة مع العدو، تتصل بأمور أخرى، ولذلك، فإن العدو يرفع شعار منع أي تمركز إيراني في كل سوريا، لأن العدو مشغول البال إزاء القوة الصاروخية التي تشكل اليوم عماد أسلحة محورالمقاومة. والعدو، أكثر من يراقب تجارب أنصار الله في اليمن والقصف الصاروخي الذي يستهدف قلب السعودية وعمقها. ويعرف العدو أن ما يقوم به اليمنيون ليس سوى بداية الطريق، مقارنة بما هو موجود اليوم بيد المقاومة في لبنان وسوريا، فكيف مع إيران؟
من ناحية ثانية، فإن إيران وحزب الله، لا يعتقدان بوجود مشكلة حقيقية مع روسيا. يعرف الطرفان أنهما على خلاف حقيقي مع موسكو في شأن الموقف من إسرائيل ومن بعض الدول العربية. لكن لا طهران ولا حزب الله، يعتقدان، بأن روسيا نفسها تذهب صوب صفقة مع الأميركيين والإسرائيليين، بل يعلم الجميع أن الوقائع الإقليمية والدولية تشير إلى معركة حقيقية قائمة بين روسيا والغرب. وليس بيد الغرب أي عرض يجعل موسكو تفكر بتغيير استراتيجيتها في سوريا.
ولذلك، فإن إيران وحزب الله ليسا في حالة قلق من أي تسوية من شأنها مساعدة الحكومة السورية على بسط سلطتها على مناطق الجنوب، سواء بالحرب أو بالسلم، وما يُحكى عن «صدامات ميدانية»، لا يعدو كونه «إشكالات» قابلة للاحتواء كما هو ظاهر حتى الآن. ويجزم أصحاب القرار في إيران وحزب الله، بأنه ليس هناك أي إشارة مقلقة من جانب النظام في دمشق. بل على العكس تماماً.
إضافة إلى كل ذلك، فإن قرار المواجهة مع العدو سواء في سوريا أو لبنان أو فلسطين، ليس قراراً بمعركة موضعية، وهو برنامج عمل طويل الأمد، وله أدواته السياسية والميدانية أيضاً. وحتى اللحظة، يجري التقدم يوماً بعد يوم، صوب المرحلة التي تدفع العدو إلى التصرف في سوريا كما يتصرف في لبنان، حيث العدوان يستوجب الرد بأقسى منه. ومن لا يقرأ جيداً، ليس أمامه سوى انتظارالمرحلة المقبلة من الصراع.