في مؤتمر فيينا ثمة زاوية لم ينظر لها أحد عند قراءة الحدث، وهو موقف ووضع روسيا وحلفائها، ففي حين انشغل الكثيرون بالحديث عن التكتيكات الروسية والسياق الذي صنعته للوصول إلى جينيف، كان بعضٌ آخر يتحدث عن نصر روسي لا مؤشرات ولا شواهد حقيقية له، وثمة صورة حاولت موسكو إخفاءها؟
الواقع أن روسيا هرولت إلى المفاوضات استباقياً لمنع حصول الفضيحة التي ينتظر الجميع حصولها، وبخاصة بعد أن اكتشفت أن كلام الميدان يختلف عن فبركات غرف الإعلام، فالحروب على الأرض ليست مثل صناعة الأخبار في منابر حلف إيران، وما قاله لها قاسم سليماني كلام يشبه الهلوسات والأماني ولا ينطوي على معطيات حقيقية تشكّل حيثيات لحرب تخوضها الجيوش.
ليس فقط بشار الأسد وحده من تستحيل إعادة تأهيله، وإنما أيضاً جيوشه وحلفائه الذين بلغت منهم الاعطاب مبلغاً يستحيل إصلاحها، فقد فتّت السوريون بلحمهم الحي أولاً وعبقرية مقاومتهم ثانياً، آلة العنف الجبّارة وفكّكوا أذرعها وخلّعوا أنيابها، وثبت أن إيران عندما هرعت إلى روسيا مستغيثة لم تكن تطلب مساعدة تقنية على ما ادعى سليماني، بل كانت تطلب شيئاً آخر وهو تعديل ميزان القوى الإقليمي الذي مال لغير صالحها وهو ما لا قدرة لروسيا على تحقيقه في ظل أوضاعها وظروفها الراهنة.
هذا الكلام ليس بقصد رفع المعنويات ولا هو خطاب تعبوي، بل هو توصيف واقعي لسياق الحدث ونقل تفصيلي لوقائع حرب عملت روسيا وأتباعها إلى فتحها على مساحة عشر جبهات بقصد تشتيت طاقة مقاومة الثوار، استخدمت فيها غطاء نارياً كثيفاً، لم يكتف بالمكوّن الجوي وحده بل وصل إلى حد استخدام الصواريخ الإستراتيجية البعيدة المدى والتي ثبت أنه لم يكن لها أي هدف عملاني حقيقي سوى إدخال الرعب إلى أبعد مدى في قلوب السوريين وإيصال رسائل لهم أنه لا حدود لعربدة القوة تجاههم.
سريعاً وقبل أن تنضج ثمار حركتها العسكرية على الأرض السورية سارعت موسكو إلى إجراء مناورة ديبلوماسية واسعة بدأتها في استدعاء عميلها في سورية «في طائرة شحن وتحت جنح الظلام»، وتبين أن الهدف من عملية الاستدعاء تلك لم يكن سوى إعادة الحياة لخطوط الاتصال مع القوى الإقليمية والدولية لإبلاغها انها بالفعل تتحكم بمفاصل الحرب والسياسة في سورية وأن لديها ما تقوله بعد أن أبلغت الأميركيين استعدادها لفتح طاولة الحوار حول سورية ولتكن طاولة فيينا حيث يتفاءل الروس بإمكانية فك العقدة السورية كما فكّكوا قبلها أزمة الملف النووي الإيراني في العاصمة ذاتها.
لكن، هل يمكن أن تحقق روسيا بالسياسة ما لم تستطع تحقيقه في الميدان؟ وهل يمكن أن تأخذ من السوريين بالمفاوضات ما لم تستطع أخذه بالقوة بعد أن انكشفت حدودها وقدراتها وإمكاناتها! يحق لممثلي الثورة السورية والقوى الإقليمية الداعمة أن تطالب بإقرار معادلات إقليمية جديدة وواقع علاقات مختلف عن مرحلة ما قبل نزول روسيا إلى الميدان الروسي، لديهم أوراق قوة وازنة وحقائق دامغة لم يعد بالإمكان تجاهلها، والمفاوض الضعيف وحده من لا يستطيع توظيف أوراق قوة بحوزته، وبما أن الحروب هي نمط تفاوضي في السياق الصراعي، أو واحدة من أدوات التفاوض وأوراق القوة على ما تسجله بديهيات الفكر الإستراتيجي، فإن نتائج الحرب في سورية لا بد من ان تسهم في إرساء معادلات داخلية وإقليمية تتطابق مع ما حقّقه الشعب السوري من انتصار واضح وجلي.
أولى تلك النتائج، اندحار قوة إيران وهزيمة منظومتها الميليشياوية على طول وعرض ميادين الصراع من اليمن إلى العراق وصولاً إلى سورية، ووضع إيران على سكة الانهيار بدليل استغاثتها بروسيا ليس فقط من أجل تخفيف صدمة هزيمتها في المنطقة بل ومن أجل ضخ مليارات الدولارات في اقتصادها المتهالك، وثانية تلك النتائج انكشاف حدود القوتين الروسية والإسرائيلية بعد أن كانتا تستخدمان كأوراق احتياط يمكن استخدامهما في لحظة حرجة بقصد تعديل موازين القوة وكسر قوة الثورة، هذه الأوراق احترقت دفعة واحدة.
سعت روسيا عبر جهود منسّقة، إعلامياً وعسكرياً، إلى إثبات أنها تحقق إنجازات ميدانية، وتسرّعت بطريقة تذكّر بإسلوب إعلام نظام الأسد في الإعلان عن تحطيم الفصائل المعارضة وتشتيتها وهرب عناصرها إلى دول الجوار، وطالبت بالحصول على مقابل سياسي يوازي انتصاراتها الإعلامية، لكن حقائق الأرض السورية الصلبة والعنيدة كانت كفيلة بأن تكشف زيف كل هذه الادعاءات، فلم يكن ما حققته روسيا أكثر من عمليات قتل لمدنيين أبرياء في أرياف حمص وحماة وإدلب وحلب، باستثناء ذلك كانت فصائل الثورة تعمل على استيعاب الهجوم وتخفيف صدمته وإبطال مفاعيله ونجحوا بالفعل وعلى الأرض وتركوا لروسيا أن تصنع روايتها كما تشاء والتي ستعود وتفككها بنفسها لحظة سارعت الاتصال بالأميركيين تطالبهم بفتح قنوات الحوار ودعوة الأطراف الإقليمية إلى فيينا للتباحث.
لن تعلن روسيا في فيينا هزيمتها، القيصر الذي نجح في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا لن يعلن هزيمته بهذا الشكل الدرامي الحزين، بل ستناور موسكو قدر الإمكان، وستحاول تجميل سلوكها وجلب أطراف إقليمية مؤيدة ومتفهمة لها، لكن الأكيد أن روسيا أدركت تماماً طبيعة الأرض التي تقف عليها، وهي تعرف مسبقاً أنها إذا غرقت لن تجد من ينقذها، كما حاولت أن تفعل هي مع إيران.