شهر العسل الذي ظنت الولايات المتحدة أنه سيبدأ مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 انتهى عندما تولى “الابن البار للاتحاد” والأجهزة الحاكمة له فلاديمير بوتين الحكم في الثانية عام 2000. وهو حكم لا يزال مستمراً رغم الانقطاع الشكلي فيه بين عامي 2008 و2012. وبعده بدأت الشكوك تسيطر على علاقة الدولتين على رغم استمرار تعاونهما في الأمم المتحدة وفي حلف شمال الأطلسي ومع الاتحاد الأوروبي. ذلك أن بوتين لم يشعر بالارتياح لتوسع حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية الذي أصبح طوقاً عسكرياً لبلاده، ولا لقرار واشنطن نصب صواريخ متطورة ودروع صاروخية في أكثر من دولة مجاورة لها. كما أن أميركا ساورتها الشكوك نفسها عندما تراجع بوتين عن رعاية الديموقراطية في روسيا، وعندما بدأ يفكّر في استعادة مرتبة الدولة العظمى لبلاده بعد فقدها إياها، وأخيراً عندما استغل العداء الكبير بين أميركا والجمهورية الإسلامية الإيرانية ولاحقاً الأزمة – الحرب الأهلية والمذهبية في سوريا من أجل استعادة الموقع الذي يريد وتلافي خطر التطويق من واشنطن. ونقلت أزمة أوكرانيا التي تفاقمت السنة الماضية العلاقة بين موسكو بوتين وواشنطن أوباما من مرحلة الشكوك إلى مرحلة حرب باردة عملياً على رغم حرص الاثنتين حتى الآن على الأقل، في المواقف الإعلامية وفي التحرُّكات السياسية، على إعطاء الانطباع أن التفاهم بينهما ممكن، ولكن طبعاً وفق أسس وقواعد جديدة. فالرئيس الروسي لا يزال يسمي أميركا والغرب في تصريحاته الإعلامية “الشركاء”. وأميركا والغرب يتعاملان معه على هذا الأساس. فضلاً عن أن اللقاءات المتكررة بين المسؤولين الكبار الروس والأميركيين والأوروبيين تشير إلى أن الدولتين العظمى والكبرى تتهيّبان دخول حرب باردة جديدة مباشرة بينهما، وحروباً بالواسطة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، ولا سيما في ظل نمو بل تصاعد أخطار مشتركة كثيرة عليهما معاً أبرزها “الإرهاب” والخوف من امتلاك إيران قوة نووية عسكرية، ومن إطلاق ذلك سباق تسلُّح نووي في العالم العربي.
هل القضايا المشار إليها أعلاه هي الوحيدة التي أثارت الشكوك وأدخلت موسكو وواشنطن حرباً باردة؟
المعلومات المتوافرة لدى مركز أبحاث أميركي عريق وجدّي تفيد أن متابعة تقيُّد العاصمتين بتنفيذ المعاهدة المتعلقة بالأسلحة النووية ذات المدى المتوسط الموقّعة بينهما عام 1987 لم تعد أكيدة (INF). وذلك يعتبر مصدراً غير معلن لشكوك الاثنتين في بعضهما، وربما مبرراً للخلاف العلني المتصاعد في سرعة.
وفي هذا الإطار يشير تقرير أخير للمركز المذكور الى أن أميركا ارتابت في انتهاك روسيا المعاهدة التي حظرت نشر الصواريخ النووية والتقليدية ذات المدى المتوسط وصواريخ “كروز”. ويشير ايضاً إلى أن تطوير موسكو صاروخ “كروز” R-500 وتحديثها صواريخ عابرة للقارات SS-27 أقلق واشنطن. ودفعها ذلك إلى إجراء تحقيق وبحث أديا إلى اقتناعها بأن الروس خرقوا المعاهدة.
لكن في الوقت نفسه، يلفت التقرير الى ان الاميركيين خالفوا المعاهدة نفسها بدورهم بتطويرهم مركبات جوية لا يقودها بشر يمكن استعمالها كصواريخ “كروز”. كما خالفوها على حد قول الروس بنشر أو التفكير في نشر قواعد صواريخ عمودية في أوروبا. طبعاً الاتهامات الروسية لأميركا بالخرق ليست بقوة الاتهامات الأميركية لروسيا. لكنها كلها تؤشر إلى قلق يتعلَّق بتفسير المعاهدة وبعدم التزام طرفيها بها.
هل يؤدي ذلك إلى إلغاء معاهدة INF؟
لا يمكن التكهُّن بذلك الآن، علماً أن آثار ذلك لن تقتصر على أميركا وروسيا. فالصين التي ليست موقَّعة عليها استغلت بنودها وراحت تنشر صواريخها البالستية القصيرة المدى في مضيق تايوان. والإنسحاب من المعاهدة يسمح لواشنطن بنشر ما تحتاج إليه من أسلحة في تلك المنطقة. في أي حال ربما يشهد العام الجديد 2015 اهتراء للمعاهدة واحتمالاً لحلها. ذلك أن مخططات الدفاع الصاروخي في أوروبا يفترض أن تطبَّق خلاله. وفي هذه الحال هدَّدت روسيا بنشر أسلحة نووية في شبه جزيرة القرم.
وعلى رغم كل ذلك يعتبر التقرير الاستغناء عن المعاهدة INF إطاحة لإجراءات بناء الثقة خلال العقود الثلاثة السابقة ومدخلاً لزيادة التدهور أو التردِّي في العلاقة بين روسيا وأميركا.