Site icon IMLebanon

روسيا بين الوجود الإيراني في سوريا والحيرة مع إسرائيل

 

إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا ظهّرت مجدداً حالة الضياع والفوضى؛ بل الخواء السياسي، التي تعيشها القوى المتصارعة والمتحالفة فوق الجغرافيا السورية. فالحادثة وما تلاها من ردود فعل من الجانبين الروسي والإسرائيلي معاً، عززت وهَن ما سمي التفاهم الروسي – الأميركي – الإسرائيلي بعد معركة الجنوب السوري، لا سيما لجهة الإعلان عن إبعاد إيران وميليشياتها مسافة 80 كيلومتراً (كلم) عن الحدود مع إسرائيل، وأحيانا 140 كلم، كما أعلنت موسكو بعيد إسقاط الطائرة في 17 سبتمبر (أيلول) الماضي.

على الرغم من القرار الروسي تسليم الجيش السوري منظومة صواريخ «إس 300» وأجهزة إلكترونية حديثة ومتطورة من شأنها منع أو إعاقة تحليق الطيران الإسرائيلي فوق الأراضي السورية، فإن أكثر من جهة تردد، وفي معظم وسائل الإعلام، أن التعاون الوثيق بين موسكو وتل أبيب سيستمر، وأن الخلاف بينهما لن يتجاوز حدوداً معينة في ظل سعي كل طرف لإنقاذ ماء الوجه.

وعلى عكس ذلك، يرى مراقبون عديدون أن هذا التفاهم الروسي – الإسرائيلي هو في الأساس ضد الطبيعة، لأنه يقوم على اعتبار أن روسيا تلعب دور الوسيط النزيه بينما في الواقع هي طرف رئيسي في النزاع.

المرجح أن استخدام الصواريخ سيكون محاصراً بخطوط حمر روسية وتحت إدارة روسية مباشرة، كما الأجهزة الإلكترونية الحديثة، التي تهدف أساساً إلى حماية القوات الروسية البرية والجوية. ومع ذلك، يبدو أن التطورات الأخيرة سوف تدخل العلاقات الروسية – الإسرائيلية خصوصاً، وجراءها المنطقة عموماً، في مرحلة جديدة قد لا تشبه المرحلة التي سبقت إسقاط الطائرة، وتفتح الباب أمام تحولات وأبعاد عدة.

التحول الأول هو أن إسرائيل أصبحت أكثر انزعاجاً وقلقاً من الوجود الروسي في سوريا. منذ بداية التدخل الروسي في سوريا، تعاملت إسرائيل مع هذا التدخل بمثابة أمر واقع لا طاقة لها بتغييره، وحاولت منذ اليوم الأول احتواءه والإفادة منه قدر المستطاع. بات أوضح للعيان اليوم أن الوجود الروسي في سوريا يعقد ويربك أكثر فأكثر قدرة إسرائيل على مواجهة إيران وميليشياتها في سوريا. هذا في وقت لم تمارس فيه موسكو أي ضغوط جدية لتقييد الحراك الإيراني السياسي والأمني أو العسكري في سوريا، بدليل أن الطيران الإسرائيلي كان لا يزال حتى يوم إسقاط الطائرة يغير على مواقع عسكرية إيرانية. وعليه، يجوز القول إن القدرة الإسرائيلية العسكرية في سوريا تتراجع، فيما الوجود الإيراني إذا صح أنه لم يتوسع أكثر، فإنه لم يتقلص. يضاف إلى ذلك عجز موسكو عن التموضع في دور «الوسيط النزيه» القادر على ضبط إيقاع التوتر الإيراني – الإسرائيلي في سوريا.

التحول الثاني هو سقوط الرهان الإسرائيلي، الذي يصفه بعضهم بـ«الوهم»، على قدرة النظام السوري على استمرار لعب دوره السابق في حماية الحدود الإسرائيلية، كما سقوط الرهان بعد معارك جنوب سوريا على القدرة على إبعاد إيران عن الحدود والمحافظة على الهدوء الذي تميزت به منذ عام 1974. وحتى إذا صح أن إيران وميليشياتها ابتعدت عن الحدود مسافة قصيرة أو بعيدة، فإن فعالية وتأثير إيران ومخابراتها وميليشياتها وتغلغلهم في مفاصل الجيش السوري يشكل تهديداً على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الأكيد في الإقليم.

التحول الثالث يتمثل بماهية الرد الإسرائيلي المقبل على محاولات إيرانية جديدة لتهريب أسلحة إلى لبنان أو تمكين ميليشياتها في سوريا. يبدو أن إيران مصممة على مواصلة عملياتها، وإسرائيل مصممة على منعها. وتصبح المشكلة أكثر تعقيداً إذا كانت الضربات الإسرائيلية قريبة من قواعد روسية في شمال غربي سوريا. هل ستخاطر إسرائيل بتوتير علاقاتها أكثر مع موسكو؟ وماذا لو تم إسقاط طائرة إسرائيلية هذه المرة؟

التحول الرابع هو في إمكانية عدم سماح روسيا بعد اليوم لإسرائيل بحرّية جوية على غرار ما تمتعت به منذ العام الماضي، حيث شنّت أكثر من 200 هجوم في سوريا؛ بحسب ما أعلنه الجيش الإسرائيلي. في هذه الحال، ما البدائل المتاحة أمام تل أبيب؛ هل البديل هو الهروب إلى الأمام وقصف مواقع في لبنان على غرار ما أعلنه نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي؟

ونتساءل في هذا السياق عما إذا كانت المواقف الأميركية من حادثة الطائرة على مستوى الحدث والرد الروسي عليه، ما ينقلنا إلى البعد الخامس وهو السياسة الأميركية تجاه سوريا… هل ستستمر واشنطن في الإقرار بالهيمنة الروسية على سوريا وترضخ لتقييدها حرية إسرائيل في مواجهة الوجود الإيراني على أراضيها في وقت ترفع فيه من وتيرة الضغوط على طهران؟ منذ اندلاع الحرب السورية بقيت إسرائيل على هامش الحدث ولم تتدخل في مسارها إلا بما يؤمن مصالحها ويحمي حدودها. اليوم دخلت إسرائيل إلى قلب الحدث السوري في مواجهة مفتوحة مع إيران، التي بدورها لن تتخلى قيد أنملة عن وجودها في سوريا كما في ظهيرها لبنان. فهل سيدفع هذا الأمر بواشنطن للضغط على إيران بدءاً من سوريا؟

أكدت واشنطن موقفها المناهض لتمدد إيران ولدورها المزعزع للاستقرار في المنطقة في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي مؤخراً أمام الجمعية العامة، كما في التصريح الذي أدلى به مبعوث الخارجية الأميركية لسوريا، السفير جيمس جيفري، أمام مجلس الأمن بعد حادثة الطائرة؛ إذ قال: «لا استقرار في سوريا مع بقاء إيران وأدواتها في هذا البلد»، وحملهم مسؤولية أعمال العنف الفاضحة في الحرب، و«أصبحوا اليوم على أبواب إسرائيل، وهذا غير مقبول». تنتظر إسرائيل ترجمة عملية لهذا الموقف على الأرض، تؤمن سنداً واقعياً للتحديات التي قد تواجهها في الحرب التي تخوضها ضد الوجود الإيراني، لا سيما بعد الإجراءات الروسية الأخيرة.

ماذا بالنسبة للمستقبل، أقلّه في المديين القريب والمتوسط؟

الأكيد أنه لا روسيا ولا إسرائيل تريدان تدهور العلاقات بينهما، علماً بأن روسيا بقيادة بوتين ستقبض ثمن دماء جنودها وستعمد إلى الإفادة القصوى من الحادثة من سوريا وإيران وإسرائيل معاً. إنما مهما اتخذت من إجراءات فلن تصل إلى حد التسبب في انهيار علاقاتها مع تل أبيب، كما من غير المرجح أن تغامر بالمكاسب التي حققتها على صعيد موقعها الدولي لحماية إيران.

في المقابل، لن يتبدد القلق الإسرائيلي إذا لم تعمل واشنطن بوضوح عبر دبلوماسية جريئة مدعومة بقوة فاعلة على ترجمة السياسة التي عبر عنها الرئيس وأعوانه، بما يسمح لإسرائيل بمواصلة تقليص الوجود الإيراني في سوريا. ودون ذلك سيكون أمام إسرائيل خياران لا ثالث لهما: إما أن تكبل بالإجراءات الروسية الجديدة وتتحصن داخل حدودها وتنتظر ما سترسو عليه الأوضاع في سوريا على وقع العلاقات بين طهران وموسكو، وإما أن تستمر في سياسة المواجهة مع ما قد تحمله من مخاطر حرب استنزاف طويلة ومكلفة قابلة لأن تتطور إلى حرب واسعة في الإقليم يصعب توقع نتائجها.