بعد ستة أشهر على تدخل عسكري مباشر في سوريا أعاد خلالها رسم خطوط جبهات المواجهة العسكرية بين قوات نظام الرئيس بشار الأسد وفصائل المعارضة المسلحة٬ اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن القوات الروسية حققت٬ إلى مدى كبير٬ أهدافها٬ وأن الوقت قد حان للبدء بسحب «الجزء الأكبر» من هذه القوات.
قد يبدو قرار الرئيس بوتين مفاجًئا للجميع٬ ولكن سبق له أن حدد٬ منذ بدء تدخله العسكري العام الماضي٬ أن أهداف هذا التدخل هي تثبيت استقرار ما وصفه بـ«السلطة الشرعية» في سوريا والعمل على إيجاد الظروف الملائمة لتسوية سياسية للنزاع الدموي.
ميدانًيا٬ حقق التدخل العسكري الروسي معظم أهداف بوتين المعلنة. إلا أنه٬ سياسًيا٬ فشل في إيجاد الظروف المواتية للتسوية التي تحدث عنها٬ بل كاد٬ وسط تزايد الضغوط الدولية لعقد مؤتمر جنيف٬ يفقد فرص السعي إليها بسبب تصلب النظام السوري على خلفية «إنجازات» السلاح الروسي الذي أتاح قصفه العشوائي لكل الفصائل المسلحة٬ ولأهداف مدنية أيًضا٬ استعادة النظام لنحو عشرة آلاف كيلومتر مربع من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة.
مع ذلك بات واضًحا أن موسكو لم تعد مرتاحة لمواقف النظام السوري من التسوية السياسية ولتوظيفه الضغط العسكري الروسي للمزيد من التصلب السياسي.
ولم تتردد موسكو في «تسريب» أنباء قلقها من تصريحات الرئيس بشار الأسد المتشددة عشية انعقاد مؤتمر جنيف٬ وخصوًصا إعلانه أنه سيستعيد٬ عسكرًيا٬ كل الأراضي التي فقد النظام سيطرته عليها.
واضح أن استعادة «كل» الأراضي التي فقدها النظام ليست حرب روسيا في سوريا٬ ولا الحرب التي يرضى الرئيس بوتين أن يخوضها نيابة عن الرئيس بشار الأسد٬ فحساباته الاستراتيجية تتعدى الإطار الجغرافي السوري لهذه الحرب إلى العلاقة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المتدهورة منذ تفجر النزاع الأوكراني وإلى حسابات داخلية٬ أبرزها احتمال تعريض روسيا لمزيد من العقوبات الغربية في مرحلة يعجز الاقتصاد الروسي عن تحملها.
من هنا يبدو توقيت قرار بوتين سحب «الجزء الأكبر» من قواته من سوريا بأهمية رسالته: بالنسبة لموسكو٬ محادثات الهدنة السورية هي بداية التسوية السياسية٬ لا مجرد «استراحة محارب» الأمر الذي يؤكده إصداره تعليمات واضحة لدبلوماسييه لتفعيل جهود التوصل إلى تسوية تفاوضية للنزاع السوري.
رغم التوتر الذي أفرزه التدخل الروسي العسكري مع الغرب لا يزال الرئيس بوتين الرابح الأكبر من النزاع السوري حتى الآن على الأقل٬ فهذا النزاع٬ الثانوي في حسابات روسيا الدولية٬ أتاح لبوتين تحقيق أكثر من هدف واحد يمكن أن يعتد به «شعبًيا» في أي انتخابات مقبلة:
بقيادته لأول تدخل عسكري روسي خارج نطاق «دول الجوار القريب»٬ في عهد ما بعد انهيار حلف وارسو٬ أثبت بوتين للولايات المتحدة أن أوراق اعتماد روسيا لموقع «الدولة العظمى» لم تسقط بسقوط المنظومة السوفياتية وأنها مستمدة من واقعها الجغرافي السياسي٬ ما يستتبع «استحقاقها» لقواعد عسكرية دائمة في سوريا.
بتوقيته المدروس لموعد تدخله المباشر في الحرب السورية وموعد انسحابه منها٬ وبدليل الوقع «المفاجئ» للموعدين على الولايات المتحدة٬ أكد بوتين أنه الطرف الأساسي الممسك بقرار الحرب والسلم بين جميع الأطراف المعنية مباشرة بالنزاع السوري.
بذريعة محاربة «الإرهاب التكفيري» في سوريا٬ حقق بوتين خدمة لا يستهان بها لأمن بلاده الداخلي. وإذا صح ما أعلنه وزير دفاعه٬ سيرغي شويغو٬ عن «القضاء» على أكثر من ألفي مقاتل إرهابي من أصول روسية يجوز اعتبار هذا الهدف دافًعا أساسًيا للحملة العسكرية الروسية لا مجرد حصيلة جانبية لها.
بانتظار معرفة الرؤية الروسية لسوريا الجديدة٬ واستطراًدا مدى تعاونها مع الولايات المتحدة على صياغة سوريا جديدة قابلة للاستمرار٬ يجوز القول إن الانسحاب الروسي المبكر من حرب سوريا الداخلية مؤشر أولي على أن سوريا ما بعد التدخل الروسي لن تكون٬ بالضرورة٬ على صورة سوريا ما قبل التدخل.