الوافد الجديد إلى البيت الأبيض لن يكون مثل سلفه. الرئيس باراك أوباما ظل وفياً لمعظم الشعارات التي رفعها أثناء حملته الانتخابية عشية ولايتيه. كان واضحاً منذ البداية على مستوى السياستين الداخلية والخارجية. ولا حاجة إلى تعداد إنجازاته. أو إلى شرح «الإرث» الذي خلفه وتحدث عنه في خطابه الوداعي في شيكاغو قبل أيام. مثلما لا حاجة إلى التذكير بإخفاقاته، وبعض منها كان نتيجة طبيعية لسياسة الانكفاء التي مارسها وأدت إلى تراجع مكانة الولايات المتحدة، كما يقول خصومه. وأدت إلى اختلال علاقاتها بكثير من الحلفاء والشركاء التقليديين، هنا في الشرق الأوسط وفي أوروبا أيضاً. فأحيت مخاوفهم وقلقهم، وأثارت استياءهم وامتعاضهم ومخاوفهم. وألحقت ضرراً بمفهوم القيم والحريات وحقوق الإنسان التي كانت ترفعها السياسات الأميركية عن حق أو غطاء لتدخلاتها وتوسيع انتشارها وحماية مصالحها. وقد نجم عنها صعود أقطاب أخرى مثل روسيا والصين وقوى إقليمية أخرى. وكانت كلها ترجمة لدعواته المبكرة إلى وجوب إشراك قوى كبرى أخرى في إدارة شؤون الكرة الأرضية فلا تظل بلاده وحدها تتحمل هذه المسؤولية. وترجمة لاقتناعه بأن أميركا لن تقدر وحدها على إدارة هذه الشؤون، وهي تخرج من حروب «استباقية» أنهكتها واستنفدت عسكرها وضربت اقتصادها.
من المبكر الجزم بالسياسة التي سينهجها الرئيس دونالد ترامب. فبناء الإدارة الجديدة سيستغرق بضعة أشهر حتى استكمال كل التعيينات، خصوصاً تلك التي لا تتطلب موافقة الكونغرس لتثبيتها. ومن الصعب قراءة هذه السياسة من عناوينها التي باتت معروفة. يكفي أن عناصرها المتوافرة لا يمكن اعتمادها استراتيجية محددة كما كانت الحال مع الرؤساء السابقين. صحيح أن الرئيس الفائز أطلق كثيراً من المواقف والتصريحات والوعود، أثناء الحملة الانتخابية وحتى دخوله عتبة البيت الأبيض. لكن الصحيح أيضاً أن كثيرين من أسلافه لم يحققوا كل الوعود التي التزموها، وبينهم سلفه أوباما. وبعيداً من موجة القلق والاستياء والانقسام التي خلفتها مواقفه، والصدمة التي مني بها العالم بفوزه، لن يكون سهلاً التنبؤ بالطريقة التي سيقود بها السيد الجديد للبيت الأبيض الولايات المتحدة، وما ستؤدي إليه على مستوى الداخل والخارج.
الشعار الكبير الأول للرئيس ترامب هو العمل لاستعادة أميركا عظمتها ومجدها. لكن أول شروط هذه المسيرة هو توحيد البلاد ورأب الشروخ التي خلفتها مواقفه الفظة والعنصرية ضد شرائح واسعة من مواطنيه. فيما تلويحه بإلغاء أو تعديل جذري لـ «أوباما كير»، أكبر الإنجازات الداخلية لسلفه في مجال الصحة، ينذر بتسعير الانقسام المجتمعي. إعادة الوحدة واللحمة عملية شاقة فيما موجة الاعتراض على تسلمه الرئاسة لا تفتر ولا تكل. حتى أن ثمة إجماعاً على أنه من المستحيل أن يجدد ولاية ثانية… هذا إذا أكمل ولايته على خير! أعلن الكثير من الأهداف ووعد بالعمل الجاد، لكنه لم يحدد أو يشرح كيف سيحقق هذه الأهداف. شدد مراراً على إعادة بناء المؤسسة العسكرية وإعادة تأهيلها وبناء اقتصاد قوي وتوفير ملايين الوظائف والبعد من سياسة المحاور أو التدخل لإسقاط أنظمة. لكنه لم يحدد كيف سيوفر هذه الوظائف. وأنى له أن يستعيد مكانة أميركا في قيادة العالم فيما بعض رجالات إدارته ليسوا على سكة واحدة معه أو في ما بينهم. جميل أن يشجعهم على إبداء آرائهم وليس التوافق معه في آرائه أو نسخها. لكن العمل الحكومي المشترك يستدعي خطة ونهجاً رئيسياً يلتزمهما وزراؤه ومستشاروه وكبار الموظفين. فالمسألة ليست مهرجاناً أو مؤتمراً يبحث في الخيارات وتداول الأفكار. لقد وعد روسيا قبل يومين برفع العقوبات التي أقرها سلفه، فيما مرشحاه لوزارة الدفاع والـ «سي آي أي» جيمس ماتيس ومايك بومبيو اتخذا مثلاً مواقف متشددة لا تلتقي ومواقفه حيال دور الاستخبارات وسياسة موسكو! كان القرار مركزياً يكاد ينحصر بيد الرئيس أوباما، فهل ستقود دعوة ترامب أعضاء إدارته ومستشاريه إلى التعبير عن آرائهم إلى لا مركزية؟ أم أنه سيعاند ويقرر ما يراه هو في النهاية مع كل تناقضاته ومفاجآته الصادمة التي عايشها الناس حتى اليوم، أثناء حملته الانتخابية وحتى عشية تسلمه منصبه؟
أما استعادة عظمة أميركا في الخارج فليست عملية سهلة. تبدل العالم. العولمة وثورة التكنولوجيا والمعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي أتاحت نشوء قوى ومنظمات وهيئات مدنية وغير مدنية لا يمكن تقييدها أو الوقوف في وجهها. تجاوزت قوتها قوة الحكومات والهيئات الرسمية، فضلاً عن أن دولاً إقليمية كبرى صاعدة لم تعد تلتزم سياسات الدول الكبرى، كما كانت الحال أيام القطبين الأميركي والسوفياتي. كما أن الاقتصاد الذي بدأ ينتقل ثقله إلى آسيا بات أكبر محرك للسياسات والعلاقات وقوة توازي القوة العسكرية، الرافعة التقليدية لوزن الدول ودورها. حتى الآن يبدي الرئيس ترامب حماسة للتفاهم مع روسيا. وفي هذا لم يكن بعيداً مما نهجه سلفه. لكن المشكلة ليست في واشنطن بل في موسكو. قد لا تعود الحرب الباردة بين الغرب والشرق قبل انهيار جدار برلين. تبدلت القواعد والوسائل. كما أن روسيا قد لا تكون قادرة على مجاراة الولايات المتحدة في الميدان العسكري ولا في الميدان الاقتصادي. لكن الرئيس فلاديمير بوتين الذي يحظى بشعبية كاسحة في بلاده سجل ولا يزال يسجل نقاطاً مهمة على حساب أميركا. فهو لا يكل عن إعادة بناء ما كان للاتحاد السوفياتي أو بالأصح لروسيا القيصرية. ثمة سلم قيم يروج له يختلف تماماً عن سلم القيم الغربية. ووسائل إعلامه تتحدث باستمرار عن انحطاط الحضارة الغربية أو الأميركية بالتحديد. هذه هي الحرب العقائدية الجديدة بين الدولتين.
الرئيس بوتين يقلقه أن يضع مرشحون للإدارة الجديدة روسيا على قائمة الدول التي تهدد مصالح الولايات المتحدة وأمنها. يقلقه أن يقرأ أن 82 في المئة من الأميركيين يعتبرون بلاده تشكل تهديداً لبلادهم. لذلك، لا يكفي الاطمئنان إلى نيات نظيره الأميركي الجديد. يواصل جاهداً بناء قواعد عسكرية وعلاقات استراتيجية من سورية إلى مصر وليبيا مروراً بالعراق وإيران وتركيا. وقد خلط حتى الآن الكثير من الأوراق بما يكفي لفرض واقع لا يمكن الإدارة الأميركية الجديدة أن تقفز فوقه. سيرغمها على التفاوض والمساومة. لن يكون النظام الدولي الجديد كما يرتأيه أو يرسمه الرئيس ترامب لاستعادة «عظمة أميركا». يكاد سيد الكرملين يحدد ملامح النظام الإقليمي في الشرق الأوسط أو يفرض خطوطه العريضة. بل يسعى إلى تحدي أوروبا والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي انطلاقاً من أوكرانيا وربما غداً من دول البلطيق ودول أوروبا الشرقية المتوجسة. صحيح أن «الناتو» يعزز حضوره في بولندا لتعزيز الخاصرة الشرقية للحلف، لكنه في المقابل يقف مكتوفاً أمام ما يحل بخاصرته الجنوبية تركيا. حتى القارة العجوز تعبر كل يوم عن قلقها من تفتت اتحادها بفعل أزمات معروفة، من صعود اليمين المتطرف إلى تداعيات الفوضى الضاربة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويزداد توجسها من تفاهم مقبل بين بوتين وترامب.
أما الصين التي يهددها الرئيس الأميركي الجديد فقد بسطت سيطرتها على الملاحة الدولية في بحرها غير عابئة باعتراض شركاء آخرين من اليابان وكوريا الجنوبية إلى فيتنام والفليبين التي يتوق رئيسها إلى علاقات عسكرية مع روسيا بديلاً من حماية أميركية تاريخية. وقد ردت بكين سريعاً ملوّحة بمواجهة مدمرة إذا اعترضتها الولايات المتحدة في البحر الجنوبي. لذلك، لا مكان لخيار عسكري في الهادئ أو جنوب شرقي آسيا. حسمت بكين الأمر. مثلما بات انتشارها في أفريقيا راسخاً رسوخ تجارتها ومنتجاتها في معظم القارات. ليست في وارد مواجهة عسكرية دوافعها اقتصادية بحتة ولن يكون سهلاً على واشنطن عرقلة خطوط تجارتها. ومثلها إيران التي يقلقها الغزل القائم بين ترامب وبوتين لا يمكن أن تتنازل بسهولة عما بنت في العقدين الأخيرين لمجرد تهديدات أميركية. بل هي ماضية في بناء ترسانتها الصاروخية وتطوير أسلحتها التقليدية وغير التقليدية. وهي تشكل مثالاً للدول التي لم تعد ترضخ لتهويل الكبار كما كان يحدث أيام الحرب الباردة.
لا تشكل روسيا والصين وإيران وحدها تحدياً للرئيس الأميركي الجديد. فدعوة بعض أقطاب إدارته ومستشاريه إلى إعادة بناء العلاقات مع الحلفاء القدامى في المنطقة العربية ستكون حلماً بعيد المنال إذا نفذ وعده بنقل مقر السفارة الأميركية إلى القدس. وأول الغيث إنذار الرئيس محمود عباس بسحب الاعتراف بإسرائيل. وتشديد مؤتمر باريس على حل الدولتين صيغة وحيدة لتسوية الصراع في المنطقة. إن نقل السفارة قد يستثير العالم العربي والإسلامي برمته. ويدفع بمزيد من الشباب إلى أحضان «داعش» وأخواته.
لا خلاف على أولوية محاربة الإرهاب. وهي أولوية تفرض على الرئيس ترامب أن يتفاهم مع روسيا وغيرها. وتفرض عليه استعادة «عظمة أميركا» مساومات وتنازلات لا منازلات وتهديدات تنذر بحروب مدمرة… وإلا تحولت روسيا والصين وإيران «مقتلاً» للرئيس الجديد. كما أن تعزيز اقتصاد الولايات المتحدة لا تبنيه قطبية لا منازع لها تدير شؤون العالم. بل تبنيه تعددية قطبية أو شراكات تتحمل مجتمعة أعباء تسوية مشاكل العالم وأزماته وحروبه. لن يطول الأمر حتى يصطدم ترامب بالواقع الداخلي الأميركي المر، وبقيادات من حزبه حتى، وبالتبدلات التي طرأت على الخريطة الدولية من بحر الصين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقلب أوروبا. فهل يتبدل سريعاً فلا يغامر؟ ومتى يحين أوان الترحم على أوباما؟
وعد الرئيس ترامب بإعادة تأهيل المؤسسة العسكرية وبنائها. وملأ إدارته بالجنرالات المتشددين، سواء حيال روسيا أو حيال إيران والصين. وقد حذرت الأخيرة الولايات المتحدة من مواجهة مدمرة إذا اعترضتها في البحر الجنوبي، حيث بنت بكين جزراً اصطناعية حولتها قواعد لتوكيد ملكيتها هذا البحر. وقد تجاهلت شريكين فيه هما فيتنام والفيليبين. ويرى آتون إلى البيت الأبيض أن الصين تشكل أكبر تحدٍّ لبلادهم.