قبل أيام عارضت الصين وروسيا عقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي يُخَصَّص لبحث الوضع في كوريا الشمالية وضمنه توصيات لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بإحالة انتهاكات حقوق الإنسان «إلى المحكمة الجنائية الدولية والنظر في تحرك ملائم آخر بشأن المحاسبة». ولم يستطع البلدان استخدام الـ «فيتو» لأن الأمر يتعلق بمجرَّد عملية تصويت إجرائية. وكانت ذريعتهما اختصاص هيئة أخرى أكثر صلاحية هي «مجلس الأمم المتحدة الخاص بحقوق الإنسان في جنيف» من جهة، ووجود توترات يمكن هذه الإحالة أن تزيدها من جهة ثانية. وهي توترات تتصل بالملف النووي، ولكن أيضاً بالهجوم الإلكتروني الذي نفذته بيونغيانغ ضد «سوني بيكتشرز» بسبب إنتاجها فيلماً كوميدياً في عنوان «إنترفيو» (مقابلة) يدور حول خطة خيالية لاغتيال ديكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
ليست المرة الأولى بالطبع التي يُصرّ فيها البلدان على تسفيه ومنع أية رقابة على انتهاكات حلفائهما وانتهاكاتهما الخاصة لحقوق الإنسان. ويقترب ذلك من أن يكون موقفاً جوهرياً يتصل بالحفاظ على احتكار المجموعات الحاكمة للسلطة والثروة فيهما وعلى مواقع نفوذهما الإقليمية والدولية، ولكن أيضاً كجزء من تصورهما للنظام الدولي «الجديد» وقواعده. وأبرز مثل على ذلك ما اتصل ويتصل بالقضية السورية حيث منعا مجلس الأمن من اتخاذ أي قرار بمعاقبة النظام الأسدي وردعه، سواء كان ذلك بتواطؤ مع واشنطن لتغطية انعدام أي تحرك أميركي أم لا. وقد ساهمتا بذلك في «صمود» النظام واستمرار حربه الكلية على شعبه وتغطية دعم الأنظمة التسلطية المتعددة له كأنظمة إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وسواها.
وتتذرع الحكومتان لشرعنة ذلك تارة بمفهوم سيادة الدول على أراضيها ومنع التدخل في شؤونها «الداخلية»، وطوراً بالحفاظ على السلم الذي غالباً ما تهدده الدول المذكورة نفسها بسياساتها المتسمة بالعدوانية بالتسلح الاستثنائي والابتزاز الإقليمي (على مثال كوريا الشمالية وإيران). وتتجاوزان ذلك إلى ألوان من حمايتها والشراكة معها في وقتٍ واحد بصفتها حليفة موضوعية في ادعاء صوغ نظام دولي مبني على التعددية القطبية.
ويستثمر النظامان الضعف العسكري للاتحاد الأوروبي وعدم امتلاكه سياسة خارجية موحدة كما العزوف الأميركي بنسخته الأوبامية عن خوض أية حروب جديدة وإعادة الانتشار الاستراتيجي نحو آسيا – المحيط الهادئ في العمل لبناء نظام دولي مضاد للمكتسبات النسبية في ميدان حقوق الإنسان التي تحققت لدى انهيار المعسكر السوفياتي، وبالذات مفهوم «مسؤولية الحماية» الذي تلى بدوره حق «التدخل الإنساني». وهما يستخدمان مجموعات الضغط الإعلامية والسياسية والاقتصادية الممكنة في البلدان الغربية لتمييع وكبح استعداداتها الاحتمالية المبدئية كديموقراطيات للدفاع عن حقوق الإنسان وتضمين النظام الدولي أية آليات جدية لاحترامها، وحليفهما في ذلك مصالح قطاعات من الشركات المتعددة الجنسية، ولكن أيضاً الرساميل العائمة التي يعود قسم كبير منها إلى الاقتصاد التحتي والجريمة المنظمة.
ولدعم سياستهما هذه يزيد النظامان في وتيرة إنفاقهما العسكري بالمقارنة مع تراجعه في الدول الغربية. ووفق معهد استوكهولم لبحوث السلام، فإن إنفاق الصين في السنوات العشر الأخيرة (2003 – 2013) زاد ثلاث مرات فيما تضاعف الإنفاق الروسي.
كما يزيد لديهما حضور الهم القمعي وتجديد أدواته التقنية و «ترشيدها». وعلى سبيل المثل كان لافتاً مؤخراً إعلان الصحافة الصينية وسط مواكبة إعلامية روسية نشطة، أن الخبراء الصينيين قاموا «بتصنيع مدفع ميكروويف يستخدم لتفريق المتظاهرين استناداً إلى تصاميم سوفياتية سابقة وبمساعدة تكنولوجيات أميركية حديثة قررت واشنطن تركها قبل سنوات لخطورتها. والمدفع الجديد مكرّسٌ للحلول مكان الغاز المسيل للدموع في تفريق التظاهرات، وهو «يسخن الدم في جسم الإنسان ويجعله يصاب بالغيبوبة». ووفق الخبراء إياهم، فإن هذا السلاح «لا يعتبر فتاكاً لكنه يعد فعالاً جداً»، هذا إضافة إلى استمرار وتنويع قيودهما ورقابتهما على وسائط التواصل الاجتماعي، ما يجعل من النظامين أهم مُنتجين للقيم والآليات المضادة التي تحتمي بها مختلف أشكال الأنظمة الاستبدادية القائمة.
ولا يعني ذلك أن روسيا والصين تشكلان محوراً متماسكاً ضد الولايات المتحدة. فمصالحهما ورؤيتهما غير متطابقة تماماً في العلاقة معها. لكنهما متفقتان على نظامٍ تعددي القطبية يضمن، إلى تقاسم مناطق النفوذ وحماية الأنظمة التسلطية والتشابكات القائمة معها، حفظ نظامهما من أي تدخل أممي حقوق – إنساني في وقتٍ تشددان قمع الحريات والخصوصيات الثقافية والاجتماعية والقومية. الأمر الذي لا يشكل بذاته تناقضاً رئيسياً مع واشنطن في مرحلة إعادة انتشارها الاستراتيجي وإعادة بناء قوتها الاقتصادية.
بهذا المعنى، فالتحالف الروسي – الصيني يشكل أداة ضغط على الدول الغربية فرادى ومجتمعة لتحييد وزنها الافتراضي في الدفاع عن الديموقراطية خارج حدودها، علماً أن هذا الدفاع جزئي أصلاً ويتأثر بتاريخ الغرب الإمبراطوري وبمصالح شركاته المتعددة الجنسية وتحالفاتها مع الكتل المالية وباليسار وقيمه اللاتدخلية التاريخية. وهو ما يجعل اهتمامها بحماية حقوق الإنسان في العالم مُخفّفاً طالما لم يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالح جوهرية.
والحال أنه في وقت يوجد تعاون صيني – روسي يزداد تصلباً لحصر العولمة في المبادلات غير القيمية وغير الحقوقية، لا نجد في الغرب تحالفاً متماسكاً واضح المعالم في هذا المجال. وليس الاصطفاف الحالي للعلاقة الأميركية والغربية في المنطقة تحت عنوان «الحرب على الإرهاب» سوى شكلٍ ارتكاسي استفاد من ارتدادات وإخفاقات «الربيع العربي» لينفي إمكان جوهره الديموقراطي المبدئي وليغطي مسؤولية المنظومة التسلطية الروسية الصينية وحليفها الإيراني في دعم أعدائه والمسؤولية الجزئية لواشنطن في ترك حلقته السورية الأهم من دون دعم. بالتالي كان منطقياً أن يشجع الارتكاس المذكور وانسدادات «الربيع العربي» في معظم فضاءاته وتفجيره «الطبيعي» لقيعان المجتمعات الأشكالَ الجديدة الأكثر توحشاً من التطرف والعدمية والمقاربات الجوهرانية للهويات الفرعية.
قصارى القول إن المنظومة التسلطية التي تتبلور تحت قيادة نظاميْ روسيا والصين وسط ضبابية الإدارة الأوبامية هي تهديدٌ جدي بإضعاف كل دمقرطة ممكنة للعولمة وللنظام الدولي العتيد، ودعمٌ للحروب غير المتناظرة وقواها، خصوصاً في منطقتنا.