في النهاية لم توضح الإدارة الأميركية أي سياسة جديدة لها في سورية، ومضى شهران على الموعد الذي حدّدته مبدئياً للإفصاح عن استراتيجيتها التي استُبقت بتصميم متكرّر على تقليص النفوذ الإيراني، وثلاثة شهور على الضربة الصاروخية لمطار الشعيرات التي بُنيت عليها حساباتٌ وتكهناتٌ كثيرة. كان يؤمل من أي استراتيجية جديدة بأن تقطع مع سلبية الإدارة السابقة، وأن تعيد شدّ عصب المعارضة سياسياً من دون أن يُتوقّع منها إنعاشها عسكرياً في المناطق القليلة التي بقيت في يدها. وبعدما ارتبكت روسيا لوهلة حيال التحركات الأميركية الأولى، فإنها ما لبثت أن تكيّفت معها وامتصّت انعكاساتها، ثم انتقلت مع أول لقاء بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هامبورغ إلى إبرام اتفاق مختلف نوعاً بالنسبة إلى درعا والقنيطرة في الجنوب الغربي، ما أعطى قوة دفع لترتيباتها مع إيران وتركيا في شأن منطقتين لـ «خفض التصعيد» وليس أربعاً، كما في الاتفاق الأوليّ. لكن الغوطة الشرقية لدمشق، وهي جزء من إحدى المنطقتين، شهدت أخيراً اتفاقاً على وقف النار أنجزته روسيا مع المعارضة، بوساطة مصرية، وألزمت به النظام السوري. أما المنطقة الرابعة، وهي إدلب، فتخضع لتنسيق روسي – تركي غير بعيد من الجانب الأميركي.
كان «مسار آستانة» تلكّأ بسبب خلافات أطرافه، لذا عمدت موسكو إلى تجزئته لتتمكّن من تسييره، في ما يُنظر إليه على أنه توزيع لمناطق النفوذ بشروط روسية. في الأساس، كانت إيران تفضّل شراكة ثنائية مع روسيا تشمل كل سورية، ثم قبلت على مضض إشراك تركيا في صيغة آستانة، لكنها تجد الآن أن مشاركتها تتقلّص لتقتصر على وسط سورية (من دمشق إلى حلب مروراً بحمص والقلمون) حيث تنتشر ميليشياتها إلى جانب وجود شكلي لقوات النظام. لذلك، تسعى طهران إلى تعزيز سيطرتها على هذه المنطقة، ومعركة جرود عرسال جزء من هذا التوجّه، لإبعاد أي فصائل مقاتلة عنها واستكمال مدّ السيطرة وتواصلها مع الحدود والأراضي اللبنانية. ويبدو الإيرانيون أنهم يستبقون على الأرض أي تنسيق أو ترتيبات قد يطلبها الروس لتحقيق نوع من الانسجام بين المسارات كافة، مع الأميركيين والمصريين والأردنيين والأتراك.
في هذا السياق، تلقّت موسكو «الأخبار الممتازة التي طال انتظارها»، وفقاً لقيادي برلماني روسي في وصفه قرار ترامب إلغاء برنامج تسليح لفصائل معارضة كانت ترعاه وكالة الاستخبارات الأميركية. وقيل أنه قرار يرمي إلى «تحسين الأجواء» في العلاقة مع روسيا، لكنه يذهب أبعد من ذلك بتأكيد التوافق الأميركي مع روسيا على تصفية المعارضة المسلحة، وهو توجّه أقرّته إدارة باراك أوباما من دون الجهر به إلا أنه أصبح الآن «رسمياً» مع إدارة ترامب. هذه الخطوة لا تغيّر معالم الخريطة العسكرية الحالية لسورية، إلا أنها تلبي هدفاً رئيسياً لروسيا، وهو إنهاء أي قتال ضد نظام بشار الأسد، إذ تعتبره موسكو شرطاً لازماً لتحريك أي مفاوضات سياسية لحل الأزمة. وبالطبع لم يلغِ ترامب برنامج البنتاغون لدعم «قوات سورية الديموقراطية» وقوات «جبهة الجنوب» وأي فصيل قد يعتمد عليه في الحرب على «داعش» في دير الزور وغيرها، ذاك أن هذه القوات دُرّبت وجهّزت وسلّحت بشرط عدم مقاتلة النظام.
هل ينطوي قرار ترامب، كما يقول ناقدوه الأميركيون، على اعتراف بمحدودية النفوذ الأميركي وبالهيمنة الروسية على سورية، وعلى قبول ببقاء الأسد في منصبه، وعلى «منح عاصمة عربية أخرى للإيرانيين»؟ ليست هناك مؤشّرات تنفي أيّاً من هذه الاستخلاصات، وهي منطقية في ما يتعلّق بالأفضلية التي تمتلكها روسيا في إدارة الملف السوري، فطالما أشارت واشنطن إلى أن لا مصالح لها داخل سورية، لكنها فرضت نفسها لاعباً وشريكاً سواء باستخدام المعارضة سابقاً أو باستخدام حلفائها الإقليميين دائماً، بل إن موسكو أصرّت في مختلف المراحل على التفاهم مع واشنطن في شأن سورية كجزء من تفاهمات أكثر شمولاً تتناول ملفات لا علاقة لها بسورية. أما بالنسبة إلى الأسد وإيران فتكثر الافتراضات، لكن قرار إنهاء دعم المعارضة بعد أسبوعين على قمة ترامب – بوتين يوحي على الأقل بأن الجانب الأميركي لم يعد يعطي أولوية لـ «مصير الأسد»، بل لدفع الخطط الروسية والتأثير فيها ولو في شكل غير مباشر، كما فعل لتعديل منهج آستانة رافضاً الاعتراف لإيران بشراكةٍ ودورٍ لا تستحقهما. ولعل واقعية هذا الموقف فرضت نفسها على روسيا، إذ يوضح بعض مصادرها أن وجود إيران في «مسار آستانة» حال دون تقدّمه، كما أن وجود ميليشياتها في ما يسمّى «قوات النظام» بات يحبط إصرار موسكو على استعادة النظام السيطرة على مناطق سورية كافةً.
على رغم أن هذه المعطيات تتكرّر في تحليل الإشكال الروسي – الإيراني، إلا أنه لا يمكن البناء عليها لاستنتاج سيناريوات مواجهة لا يريدها الطرفان ولا يسعيان إليها. لكن عوامل التعارض تتكاثر مع الوقت، ولا بد أن تبرز أكثر كلما توسّعت موسكو في توزيع المناطق والأدوار، وكلما اقتربت من وضع تعتقده «مستقرّاً» أمنياً ومساعداً على تحريك التفاوض السياسي، إذ إن طهران تملك ورقة تخريب الحلول، إمّا بالتوتير على الأرض أو بتحريض «جناحها» في النظام، وقد لعبت هذا الدور في مراحل عدّة لعل أحدثها غداة اتفاق وقف النار في الغوطة الشرقية وإعلان النظام التزامه بالتزامن مع هجمات جوية وبرية نُسبت إلى «قواته». وسبق أن حاول الإيرانيون إسقاط هدنة الجنوب الغربي قبل أن يتوصّل الأطراف إلى وضع آليات ثابتة لمراقبتها.
مع وجود أربعة أطراف، أميركا وتركيا ومصر والأردن، إضافة إلى أطراف أخرى يصعب تجاهلها، تحاول جميعاً العمل مع روسيا وعبرها لبلورة ظروف ميدانية جديدة ومنسجمة في مناطق القتال، تحديداً بضبط فصائل المعارضة وبفرض وقائع على النظام حتى لو أدّت إلى تحجيم طموحاته، لا بدّ لإيران من أن تتكيّف مع التطوّرات ومع ما يدعمه المجتمع الدولي، أو تنفرد بموقف يكشف سعيها إلى إدامة الصراع، ما لم تحصل على «ضمانات» مسبقة لمصالحها في سورية، وامتداداً في لبنان. عملياً لن تنجرّ روسيا إلى مواجهة مع إيران، بل تواصل التشاور الدوري معها، لكن الاتفاقات التي تعقدها مع كل تلك الأطراف تقود تلقائياً إلى تطويق الدور الإيراني ورسم حدود له. كما أن استكمال نهج «خفض التصعيد» والتوجّه إلى ترجمته سياسياً في رعاية روسية – أميركية، خلال شهري أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) المقبلَين، يثيران أيضاً توجّسات إيران التي ستجد شيئاً فشيئاً صعوبة في استخدام الأسد ونظامه للتأثير في ما سيُطرح من خيارات أو تعطيلها.
ثمة خللٌ دائم، جوهري وموضوعي، في الخطط الروسية كما في الأميركية، لكن مع بعض الفوارق الشكلية. فهي إذ تسعى إلى تصفية المعارضة المسلّحة تنحاز بوضوح إلى الطرف الآخر، أي نظام الأسد، ولا توازن انحيازها بتعامل جدّي مع المعارضة السياسية ومطالبها المعبّرة بنسبة كبيرة عن طموحات الشعب الذي انتفض ضد هذا النظام. في المقابل، تبدي دولٌ غربية عدة استعداداً براغماتياً لغضّ النظر عن استمرار الأسد في السلطة، وهي لا تبحث في موازنة الفظاعة التي ترتكبها بتشديد الشروط لبقائه أو بدعم الخيارات الصحيحة لتحقيق الانتقال السياسي، بل إنها تستخدم هذه الورقة في مقايضات تجارية أو سياسية مع روسيا وإيران من دون أي اعتبار لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ستبقى في سجل النظام مهما بذل من جهد لتلميعه وتعويمه. وإذا كان الجميع يتغطّى بضرورة وقف القتال للذهاب إلى حل سياسي، فإن أي حلّ مبني على هزيمة الشعب وانتصار النظام وتريد روسيا تمريره بالضغط والاحتيال، وبالتفاهم مع أميركا، سيكون محكوماً عليه بالفشل لأنه يضمر استخدام القوة لفرضه. ومن شأن ذلك أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الانتفاضة الشعبية.