عاد الحديث عن حرب باردة بين روسيا والغرب. ففي سوريا أصبحت روسيا الدولة التي من المستحيل حل النزاع من دونها. موسكو تريد حوا ًرا مع واشنطن يهدف إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى. ولهذا تلعب لعبة دبلوماسية متطورة جًدا٬ فالقوة وسوريا مجرد أدوات لاستعادة المكانة العظمى.
الرئيس باراك أوباما اتهم روسيا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأنها تبحث عن استعادة مجد ضائع. الآن هو على وشك المغادرة٬ وتتجه الأنظار إلى من لها. ذلك أن تعاطي الرئيس الأميركي المقبل مع سوريا سيعتمد أولاً على روسيا ونياتها. قد تكتفي الإدارة الأميركية الجديدة بالتركيز على محاربة ستختاره أميركا رئي ًسا مقبلاً
ا أبعد من محاربة «داعش» وبقية الإسلاميين المتطرفين. ذلك أن تدخلها بالحرب في سوريا٬ ب ًرا وجًوا وبح ًرا٬ كان لإظهار رغبة
«داعش» ومقاتليه٬ لك ّن لروسيا أهدافً الكرملين بدعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد٬ وفي الوقت نفسه للدلالة على التحالف الاستراتيجي بين روسيا وإيران٬ إلى درجة أنه جرى حديث عن تحالف شيعي بقيادة طهران تدعمه موسكو٬ لتحدي الكتلة السنية المدعومة من واشنطن.
لكن٬ مع هذا تبقى روسيا وإيران أبعد من تشكيل تحالف كامل. في 16 أغسطس (آب) الماضي سمحت إيران لقاذفات القنابل الروسية باستخدام قواعدها الجوية لضرب مواقع الثوار السوريين٬ بعد أقل من أسبوع تراجعت إيران عن قرارها. صحيح أن لروسيا وإيران كثي ًرا من المصالح الإقليمية المشتركة وبالذات في سوريا٬ لكن تبقى هناك توترات موروثة من حروب سابقة. كما أن موسكو لا تريد أن تستحوذ إيران على السلاح النووي٬ وتتخوف من أن أي اتفاق نووي شامل وبعيد المدى قد يدفع إلى تقارب بين واشنطن وطهران٬ فيقلص هذا من النفوذ الروسي أكثر فأكثر.
في سوريا تريد روسيا إظهار أنها بالفعل تقدم الحماية لحلفائها٬ وترى في الوقت نفسه أن إلحاق الهزيمة بالمتطرفين السنّة هو الطريق لاحتواء النفوذ الأميركي في المنطقة٬ كما أنها تريد أن تحمي حليفها السوري. والمغامرة الروسية ترغب في المحافظة على حكومة صديقة لها في دمشق٬ وقواعد بحرية على الأبيض المتوسط٬ وتأكيد مكانتها كقوة عظمى. ترفض روسيا تغييرا في النظام السوري يؤدي إلى قيام حكومة في دمشق موالية للغرب. هذا ما تريد منعه٬ لكن هذا لا يعني الدفاع عن قيادة بشار الأسد مهما كان الثمن.
ثم إن روسيا ترتبط بعلاقات براغماتية في الشرق الأوسط. ويقول أحد المحللين الروس إنه إذا كان هناك من شك بالنسبة إلى جدول موسكو المستقل في سوريا بالنسبة إلى إيران٬ فليس علينا التفتيش كثيرا٬ بل أن نأخذ إسرائيل التي تقول إيران إنها العدو الرئيسي٬ إذ ترتبط موسكو بعلاقات وثيقة مع تل أبيب٬ وتضاعفت هذه العلاقات في عهد الرئيس فلاديمير بوتين. الدولتان مستمرتان بحوار سياسي٬ وهناك تبادل وفود بينهما على كل المستويات٬ ويوم الجمعة الماضي أجرى بوتين اتصالاً هاتفًيا مع بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ليهنئه بعيد ميلاده٬ والأعياد اليهودية٬ كما تبادلا التهاني لمرور 25 سنة (18 أكتوبر/ تشرين الأول)٬ على إعادة العلاقات بين الدولتين (كانت روسيا قطعت العلاقات مع إسرائيل بعد حرب يونيو/ حزيران ٬1967 وأعادتها على مستوى قنصليات عام ٬1987 لتُستأنف كاملة عام 1991(٬ كما تعهد الطرفان بتطوير العلاقات والتعاون بينهما. ناهيك بأن عدًدا كبيرا من المواطنين الإسرائيليين ولدوا في الاتحاد السوفياتي. إضافة إلى إسرائيل٬ تحتفظ موسكو بعلاقات جيدة مع مصر وتركيا والدول السنّية العربية التي ليست إيران على علاقات جيدة معها. ويوم الاثنين الماضي قال ألكسندر نوفاك وزير الطاقة الروسي: «بلغنا مستوى غير مسبوق في علاقاتنا مع السعودية». كما تتنافس روسيا وإيران في مجالي النفط والغاز٬ والدولتان تدعيان ملكية مناطق في بحر قزوين.
يقول المحلل الروسي إنه لا يزال الروس يشعرون بطعم الذل الذي لاقوه من الغرب بعد موجة الديمقراطية التي دمرت الجدار الحديدي 1989 ٬1990 وتفكك الاتحاد السوفياتي. يعرف بوتين هذا٬ ولذلك من أجل سلطته وأي ًضا بسبب غريزة وطنية حقيقية تضاعفت بسبب أيامه في استخبارات الـ«كي جي بي»٬ يلعب الآن بالورقة الوطنية٬ ولأنه يريد استعادة هيبة روسيا الدولية٬ كما يريد غالبية الروس٬ فإنه يريد فتح أسواق أوسع أمام الأسلحة الروسية. يقول محدثي: «هذا يعود إلى براغماتية بوتين. وفّرت سوريا له مسرحا لاستعراض طائراته وصواريخه». ويضيف: موسكو تصّعد من حملتها العسكرية في سوريا الآن لأنها لا تزال تعتقد أنها قادرة على إقناع الأميركيين بقبول موقفها والتخلي عن مطلبهم برحيل الأسد. ويعتقد بوتين أنه يستطيع عندها الاستمرار بمحاربة الإسلاميين مع الولايات المتحدة٬ وهو يرغب في التوصل إلى اتفاق ما مع إدارة أوباما٬ لأن الروس مقتنعون بأن هيلاري كلينتون٬ كرئيسة محتملة٬ ستكون أكثر تشدًدا مما عليه أوباما.
لكن٬ لا يجد بوتين ثغرة ضد المصالح الأميركية إلا ويحاول سدها بموقف روسي معاٍد٬ إذ٬ وفي مجال أوسع من منطقة الشرق الأوسط٬ دعمت موسكو مطالب الصين بجزر بحر الصين الجنوبي٬ وتصالحت مع تركيا مستغلة غضب أنقرة من الغرب بعد المحاولة الانقلابية على الرئيس رجب طيب إردوغان. يقول المحلل الروسي: قد تكون روسيا طموحة جًدا بمحاولتها سحب تركيا من الحلف الأطلسي نفسه. هي ترى أن تركيا لم تعد مهتمة الآن بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي٬ لذلك يستغل بوتين ردود فعل إردوغان على محاولة الانقلاب٬ لشد تركيا أكثر إلى آسيا ودفعها إلى تحالفات تجارية ودبلوماسية مثل منظمة شانغهاي للتعاون.
وكانت الغارات الجوية التركية يوم الخميس الماضي على قوات وحدات حماية الشعب الكردية لمنعها من الوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية شمال غربي سوريا٬ أثارت كثيرا من الأسئلة حول علاقة أنقرة بموسكو والنظام السوري٬ إذ ما كان يمكن للطائرات التركية الإغارة من دون إبلاغ روسيا التي تسيطر على الأجواء في تلك المنطقة.
لكن في الوقت نفسه لن تسمح روسيا للمعارضة السورية المدعومة من تركيا باحتلال الباب٬ لأن هذا قد يهدد خطط الحكومة السورية باسترجاع حلب. وكان إردوغان تحدث هاتفًيا مع بوتين في 19 من الشهر الحالي٬ حيث أكد له مساعدة تركيا في طرد «جبهة فتح الشام» (النصرة) من حلب.
وكان لوحظ أنه مع بدء المعارك لاسترجاع الموصل لم تطلب أي دولة من دول التحالف استعمال القواعد الجوية التركية لشن غاراتها الجوية. وهذا ما أثار سخط أنقرة ويدفع موسكو إلى فتح أذرعها لتركيا أوسع فأوسع.
الأوراق الروسية كثيرة٬ تختصر برغبة الكرملين في استعادة الوضع السابق ليصبح على قدم المساواة مع البيت الأبيض٬ لكن في ظل إدارة أوباما التي انكفأت عن كثير من الصراعات كان تدخل بوتين. في سوريا٬ يشعر كثيرون بأن واشنطن لعبت دو ًرا رئيسًيا في تفاقم الحرب٬ بسبب ترددها وعدم حسمها٬ وتفضيلها التوصل إلى اتفاق مع إيران على حساب مصير الشعب السوري. أما في العراق٬ فإن معركة الموصل رغم أهدافها لا تزال في البداية. عبر هذه الفوضى الدموية تستغل موسكو الحرب في سوريا لزعزعة الحلف الأطلسي؛ بأن تزيد من الشرخ بين تركيا والحلف٬ في حين أن إيران تراقب وقد استدعت السفير التركي في طهران للاحتجاج على طلب تركيا التدخل في معركة الموصل. تعرف إيران أن هناك خطوط أنابيب للنفط والغاز تنطلق من منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين إلى البحر المتوسط٬ وأن سوريا وتركيا من المواقع المهمة للتصدير إلى أوروبا. وتقف روسيا لها بالمرصاد.
اللعبة لن تنتهي في الشرق الأوسط.