صدمة إسقاط الطائرة الروسية «إيل – 20» على الشاطئ السوري عبّرت عنها موسكو بطريقتين، مرونة في كلام الرئيس فلاديمير بوتين وتشدد في كلام المسؤولين الكبار في الجيش، لكن الموقف العام سينعكس على التنسيق العسكري بين موسكو وتل أبيب من دون أن يمس الصداقة القائمة بين البلدين. ولا مجال للمقارنة بإسقاط الأتراك عمداً طائرة سوخوي الروسية، فالوضع على الشاطئ السوري كان ملتبساً بين دفاعات النظام الجوية والقصف الإسرائيلي وحضور عسكري فرنسي في البحر. نحن أمام مصادفة مؤسفة لموسكو لكنها ستؤدي على الأغلب إلى حصر غض النظر الروسي عن قصف إسرائيل سورية في حالات محددة، وأن يتم إبلاغ الجيش الروسي بالقصف في وقت كافٍ وليس عند بدء العملية.
الحادث العابر يفتح ملف الوجود السياسي والعسكري الروسي في سورية الذي يحظى بتأييد النظام وتركيا وإيران وبغض نظر أميركي وعربي، وباختلاف الموقف منه في العواصم الأوروبية. ولن يؤدي الحادث إلى تغيير في الاتفاق بين موسكو وأنقرة حول الوضع في إدلب، لكن التطبيق على الأرض لن يكون سهلاً، خصوصاً في عملية السيطرة على المنطقة الفاصلة بين قوات النظام وقوات المعارضة التي تحظى برضى تركيا ودعمها. الوضع معقد، خصوصاً أن أنقرة وحدها تعرف الفرق بين المعارض والإرهابي في المساحة التي يشغلها المسلحون، وقد تضطر إلى التسامح مع إرهابيين ونقلهم من خانة إلى خانة لتبييض صفحتهم شرط تعهدهم بخدمة أهدافها في سورية، تلك الأهداف المحصورة اليوم بمنع سيطرة سياسية أو عسكرية للأكراد السوريين في الشمال. لكن الأهداف قد تتبدل وتتوسع حين توضع القضية السورية على طاولة كبار العالم والإقليم وتبدأ الاتفاقات على توزيع النفوذ. واللافت أن تركيا، على رغم سيطرتها على مسلحين معارضين كثيرين واتساع حدودها مع سورية، فهي لا تطرح طلبها القديم بأن يرأس حكومة دمشق بعد الحرب وجه من جماعة «الإخوان المسلمين». لقد تغيرت الصورة، فأنقرة سترعى مصالحها وتمارس نفوذها مباشرة هذه المرة، من دون حاجة إلى «إخواني» يمدّ يده إلى طهران صديقة «الجماعة» ويربك علاقة أنقرة مع المدى العربي لسورية ما بعد الحرب.
أين موسكو من طاولة اقتسام النفوذ في سورية؟
يبدو أنها تريد اعتراف جميع المتدخلين بقاعدتها العسكرية في حميميم، وإقناع السوريين بصداقة موسكو التي تتلقى سهام الرفض من بعض المعارضة المعتدلة ومن المعارضين المتطرفين جميعاً. إن إرضاء الشعب السوري أو عدم إرضائه يتوقف على سلوك روسيا السياسي والعسكري، وابتعادها عن طهران التي يعتبر السوريون وجودها في بلدهم غزواً مذهبياً وتدخلاً أيديولوجياً في حياة السكان لا يختلف عن تدخل سائر المتطرفين الإسلاميين، خصوصاً «النصرة» و «داعش». هنا يبدو الحضور الروسي في سورية مقبولاً بالمقارنة بحضور إيران والإسلاميين الآخرين، فالروس لا يتدخلون في نمط حياة السوريين الذين يدركون أن وطنهم مقبل على تسوية دولية ليست واشنطن بعيدة منها، لذلك يفضلون الروسي، ليس فقط على الإيراني بل أيضاً على التركي الذي يصدّره أردوغان إلى جيرانه في صورة عثماني يستحضر ماضياً أسود كما يستدعي الحذر.
وعودة إلى موسكو فإن نجاحها في نيل حظوة السوريين يمهد لها علاقات حسنة مع العالمين العربي والإسلامي تحتاجها دولياً، وفي الداخل الروسي والجوار القريب.