تقدمت روسيا بأوراق اعتمادها في سورية لدى الوضع الدولي ورعاته، وفي طليعة هؤلاء الولايات المتحدة الأميركية. لقد بدا لكثيرين، أو للكثرة الغالبة من المتابعين السياسيين، أن الرعاية الأميركية للوضع السوري لا تقودها سياسة محددة، أو أنها سياسة تجريب واختبار، أو أنها سياسة تخطيط وتقدم وتراجع وإقدام وإحجام. في مقابل ذلك قيل إن المتدخل الروسي يتحرك وفق خطة واضحة الأهداف وفي طليعتها الانتقال من كرسي اللامبالاة التي اختارها الوضع الدولي للبلاد الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة البلاد الاشتراكية، إلى مقعد القطب الدولي الذي يطمح إلى فرض الاعتراف به مجدداً لاعباً أساسياً على الساحة العالمية. ما ظهر من تطورات الوضع السوري هو أن ما سمِّي اللاسياسة الأميركية كان السياسة بعينها، وما صُنِّف أنه السياسة الروسية الهجومية، كان هو الهجوم السياسي في لبوس الدفاع أي الشكل التدخلي الذي يرسل الإيحاءات والإشارات والرسائل، حول حقيقة الطلبات الروسية الفعلية، محسوماً منها كل سوء فهم وكل تأويل. كخلاصة من تعايش السياستين الأميركية والروسية، كانت هذه الحصيلة الخرابية العظمى التي تعاون على صناعتها رغبتان: رغبة أميركية بإدارة العملية الصراعية في سورية من فوق، أو من بعيد، أو من قريب لا يصل إلى حدود التماس والالتصاق والاشتباك، ورغبة روسية في التدخل المحسوب من فوق ومن تحت، أي من الجو أساساً ومن تركيب هيكلة حصاد سياسي فوري يترتب على ما يفعله سلاح الجو وما يحققه خليط القوى البرية التي لم تكن بعيدة هي الأخرى عن أيدي «الخبراء الروس»، وعن حنكة ودراية تجاربهم «التدريبية». على هذه الخلاصة ترتب خلاصة أخرى موجزها أن السياسي الأميركي والسياسي الروسي كانا صديقين في سورية ولم يكونا خصمين، وأنهما كانا متعاونين ولم يكونا متنابذين، وأنهما كانا متفاهمين عملياً وضمنياً على تقاسم العائد السوري عندما تحين مواعيد القسمة، هذا مع إدراك كل طرف لموقعه في جلسة التقاسم، ولعوامل قوته التي تتدخل بحسم وحزم، في تعيين مقدار حصة كل طرف من الطرفين.
سياسة الترحيل، أو نقل المؤسسة والبضاعة، تجوز في وصف «العولمة الحربية» التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية، فهذه تركت للروسي وظيفة اليد العاملة، بعدما نقلت ملفات الشركة إليه، واحتفظت لنفسها بفوائد الامتياز والبيع والتحكم بأسعار ومواصفات السلعة، تاركةً للروسي أن يلعب دور المقاول من الباطن، مستفيداً من قدرته على حشد جيش من الأيدي العاملة ذات الجنسيات المتعددة، حيث يجد اليد العاملة الأقل أجراً، تلك التي شكل عمادها الإيرانيون ومن سار في ركابهم من الأشياع والأتباع، وضمّت «النظام السوري» وفقاً للنسخة التي آل إليه وضعه البنيوي وحالته الميدانية. ما أنتجته الصورة لا يتعدى طبعة من التراتبية العامة في أعلى هيكلها المدير الأميركي، يليه الطامح الروسي، ويتبعه الطامح الإيراني، ولا يغيب «العثماني التركي» ذي النكهة السورية الخاصة، هذا فيما يترك لكل اليد العاملة المقاتلة ترجمة الخطط التدخلية إلى كرات نار ودمار.
الآن ومع اقتراب النار السورية من زمن ضمورها، باتت الأدوار مكشوفة، وباتت أسماء المختلفين على الخرائط والنفوذ معروفة، ومع هذا وذاك، يقدم كل فريق على أدائه دونما أقنعة ولا استحياء. وعليه، لا تستطيع أن تسأل المتدخل الثوري عن شعاراته الثورية، ولا المشارك الرسمي عن سيادته، ولا الأميركي عن حقوق الإنسان، ولا الروسي عن تبريره لوحشية تدخله المفرطة. جواب الجميع سيكون واحداً: إنها المصالح حضرة السائل النجيب!!. في ميدان المصالح هذه تنبعث خشية وخشية، فصداقات الحرب تبدلها معطيات السلم، وتحالفات الضرورة تلغيها وقائع العادية. وفقاً لذلك، تفترض مسيرة عودة الوضع السوري إلى طبيعته قراءة متأنية عن الحلفاء والخصوم والأدوار. الدور الأميركي سيظل حتى إشعار آخر مظلة عاملة تظلِّل كل الأدوار، وهي بمقاييس كثيرة الأقدر على العطاء والحجب، ولديها من المرونة ما يكفي لمقايضة خيار إقليمي بخيار آخر. المعني الأول بطرح كهذا هو الروسي، الذي يريد مقايضات ويريد دروع تثبيت في سورية وفي سواها. اللاعب الإيراني قد تكون الوظيفة الآنية هي الأقرب إلى وضعه، فإذا نضجت «صفقة قرن» كبرى كان المرجح لإيران عودتها دولة طبيعية في المنطقة لا أكثر ولا أقل، أي السماح لها بنظامها كجائزة ترضية لدورها السوري والعراقي، ولتعاونها في أفغانستان. ولا تبدو تركيا قلقة ضمن عودة سلمية كهذه للوضع السوري، فالأردوغانية وعلى رغم كل التبدلات التي رافقتها داخلياً في تركيا، لا تجعل من الوطن التركي العضو في حلف شمال الأطلسي، طائراً خارج سرب المصالح الأميركية والأطلسية العامة. أما في مواكبة الـسرب، «فالغريّد» الإسرائيلي يدلي بصوت مطالبه المستجابة في كل مكان، وهو بعدما اطمأن إلى سلامة فضائه وحدوده، أطلق العنان لطيرانه لئلا يكون صوتُ نشاز خارج ذراع أسلحة الطيران.
صورة سورية على صورة المتدخلين. سورية ما زالت تنتظر صورة لها على صورة أهلها… عسى تكون لنا جميعاً هذه الصورة.