رغم دوي «عاصفة السوخوي» في الفضاء السوري٬ فإنه برزت تصريحات روسية مفاجئة تستدعي التأمل٬ لأنها توحي بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما بدأ يكتشف أن حسابات الفضاء السوري شيء٬ وحسابات الأرض شيء آخر٬ والدليل أن المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف لم يتردد في القول قبل يومين: «من المستبعد إمكان فرض التسوية السياسية في سوريا من خلال العملية العسكرية الروسية هناك»!
غريب فعلاً٬ لأن بوتين أعلن في 16 من الشهر الماضي أمام منظمة الأمن الجماعي في دوشنبي٬ أن هناك حاجة لتوحيد القوى في المعركة ضد الإرهاب٬ لأن من المستحيل التوصل إلى تسوية سياسية دون دحر الإرهابيين٬ هذا بينما كان بشار الأسد يعلن في دمشق أن ضرب الإرهابيين يجب أن يتقدم على أي حديث عن الحل السياسي؟
السؤال الفوري الذي يجب طرحه الآن بعدما انزلق بوتين إلى المستنقع السوري: عن أي تسوية سياسية يتحدث٬ وبينَمن وَمن يمكن أن تتم هذه التسوية٬ إذا كان لا يعترف حتى بوجود معارضة معتدلة في سوريا٬ ويعتبر أن كل معارض للأسد إرهابي يجب القضاء عليه؟
المتحدث باسم بوتين أعلن يوم الثلاثاء الماضي أسفه لعدم تمكن الدول الغربية من أن تشرح لموسكو من هم المعنيون بالمعارضة المعتدلة٬ (خلال اللقاء بين الرئيس الروسي والرئيسين الفرنسي والألماني في باريس أعرب عن اهتمامه الكبير بهذه المسألة٬ وسأل عن الفرق بين المعارضة المعتدلة وغير المعتدلة٬ وحتى الآن لم ينجح أحد في تفسير ما هي المعارضة المعتدلة)!
ولكن لماذا يدخل بوتين الحرب أو المستنقع الدموي على هذا الأساس وفي سياق معادلة عمياء تقول إنه ليس هناك سوى الأسد و«داعش»٬ وهي المعادلة التي ستضع التنظيمات المعارضة في قبضة «داعش»٬ خصوًصا أن القصف الجوي الروسي يتركز منذ بدايته على مواقع المعارضة المتقدمة التي تهدد تخوم اللاذقية والمناطق المحاذية لغرب إدلب؟ ثم لماذا يسير بوتين على خطى إردوغان٬ الذي أعلن الحرب على «داعش» ثم راح يقصف الأكراد٬ عندما يعلن الحرب على «داعش» ويقصف المعارضة؟
في التصريحات الروسية المفاجئة أيًضا٬ استحضرت المتحدثة باسم الخارجية ماريا زاخاروفا موقف الكرملين من تنظيم «القاعدة» والهجمات على أميركا في 11 سبتمبر (أيلول)٬ لتقول للأميركيين الذين ينتقدون الانخراط الروسي في الحرب إن روسيا شاركت أميركا ألمها بعد «غزوة نيويورك» وإنها تتفهم ما يعنيه الإرهاب..
«ولقد دعمنا أميركا في كل شيء٬ بما في ذلك مجلس الأمن٬ وساعدناها في محاربة الإرهاب٬ ولم نتساءل هل هم إرهابيون جيدون أم سيئون»!
هذا التذكير يثير الاستغراب على خلفية ما يأتي:
أولا: إن روسيا تنخرط في حرب لا تفّرق فيها بين القاتل والقتيل٬ ولا تعترف بوجود معارضة سورية بدأت قبل خمسة أعوام بمواجهة رصاص النظام وهي عارية تهتف في درعا «سلمية سلمية» على ما يعرف العالم وكذلك فلاديمير بوتين.
ثانًيا: لأنه في بلد يغرق في المذابح والدم منذ خمسة أعوام وسط تعامي واشنطن حتى عن استعمال السلاح الكيماوي٬ ووسط دعم موسكو للنظام سياسًيا وعسكرًيا وإصرارها على إفشال الحل السياسي٬ كان من الطبيعي ظهور تنظيمات إرهابية متطرفة بعدما تقاطر إليه المتطرفون من أكثر من مائة دولة بينها روسيا والشيشان وبلاد القوقاز.
ثالًثا: وهو الأهم٬ لأن روسيا وأميركا تعاملتا مع سوريا الغارقة في الدماء٬ على أنها تمثل مصيدة ثمينة للعناصر الإرهابية٬ وعلى خلفية سياسة بغيضة تقول: دعوهم يتذابحون هناك فنرتاح من شرورهم هنا٬ شّجعوهم على الذهاب إلى هناك لنأمن شّرهم هنا٬ ولماذا نصنع حلاً يوقف هذه الحرب المفيدة.. وهكذا تقاطر المتطرفون والإرهابيون بمئات الآلاف إلى المصيدتين السورية والعراقية٬ وهناك بين الذين يقاتلون مع «داعش» و«النصرة» أكثر من 3500 شيشاني وروسي خلاًفا لقول موسكو إنهم ألفان فقط؟
وحتى لو كانوا ألفين٬ فها هي ماريا زاخاروفا تؤكد «أن قتالهم بالنسبة إلى موسكو مسألة أمن قومي٬ ولقد مررنا بذلك ونعلم ما هو٬ ولا نريد أن نرى إرهاًبا دولًيا في بلادنا ثانية. هذا أمر مؤلم بالنسبة لنا»٬ ولكن هل هذا يعني أن بوتين على طريقة جورج بوش٬ يعلن حرًبا استباقية ضد الإرهابيين الشيشانيين وغيرهم من دول القوقاز٬ ويعّد بروز «داعش» والمعارضين للنظام السوري مثل «غزوة نيويورك»؟!
رابًعا: وهو الأخطر بالنسبة إلى الأميركيين تحديًدا؛ لأن القتال بين النظام السوري المدعوم من إيران الشيعية وأذرعها العسكرية اللبنانية والعراقية٬ و«داعش» الذي يحاول خطف الإسلام وتشّويه صورة السنة في العالم٬ وكذلك القتال بين «داعش» والحكومة العراقية٬ يمكن أن يؤجج سعير الفتنة المذهبية في المنطقة كلها٬ لهذا
عندما يركز الروس عملياتهم لدحر المعارضة٬ فإنهم يعّمقون هذا الصراع المذهبي.
في 28 يوليو (تموز) الماضي أحدث خطاب بشار الأسد هزة في موسكو عندما أعلن ما يشبه استحقاق الهزيمة بعدما اعترف بأن عدد الجيش السوري يتناقص وخسارة المواقع تتوالى٬ وأنه ينسحب من مواقع إلى مواقع أكثر أهمية٬ ولكن الأكثر أهمية عنده أكثر أهمية عند بوتين٬ وهو تحديًدا منطقة الساحل العلوية التي يقيم فيها الروس قاعدتهم البحرية في طرطوس التي تعطيهم مركًزا استراتيجًيا على المتوسط.
والأكثر أهمية عند بوتين والأسد أكثر أهمية عند إيران التي تنخرط ميدانًيا ومالًيا في دعم النظام السوري٬ ولكن كل هذا لم يمنع خسارة الأسد 80 في المائة من مساحة سوريا٬ ولهذا بدأ بوتين حربه الجوية في حين كان الإيرانيون يستميتون في القتال من الزبداني على حدود لبنان إلى غرب إدلب مروًرا بدمشق فيما بدا أنها محاولة لتثبيت حدود الدولة العلوية٬ والأكثر إثارة أن الغارات الروسية التي جاءت منذ عشرة أيام تتركز على مواقع المعارضة المتقدمة التي كانت تتهدد الحدود المفترضة للدولة العلوية!
بوتين لا يملك أي وهم في أنه سيعيد سيطرة الأسد على سوريا٬ ولن يضع في تاريخه 250 ألف قتيل جديد وتدمير ما تبقى من البلد٬ وحديث سيرغي لافروف عن الاستعداد للحديث مع «الجيش السوري الحر» بداية بحث عن مخرج من المستنقع الدموي عبر حل سياسي اكتشف بوتين فجأة أنه لن يأتي من خلال العملية العسكرية.. وهذا غريب فعلاً!
ذات يوم قال لينين: أعط الأميركيين ما يكفي من الحبال وهم كفيلون بشنق أنفسهم في آسيا٬ فهل أعطى الأميركيون الروس ما يكفي من الحبال ليشنقوا أنفسهم في العالم الإسلامي المترامي من سوريا إلى داخل روسيا التي فيها 20 مليون مسلم؟