IMLebanon

روسيا وإيران والعرب؛ معادلات ملء الفراغ

الصراعات التي يشهدها عالم اليوم، ترجع، في جلّها الأكبر، إلى سعي الثلاثية الرأسمالية الإمبريالية (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان)، إلى استمرار هيمنتها العالمية في مواجهة صعود قوى اقتصادية كبرى (مجموعة البريكس) ودفاعية مستقلة (منظمة شانغهاي.) وقطب الرحى، في الحالتين، يتمثل في روسيا التي تقاربت مع إيران، بصورة إيجابية وفعالة، منذ 2011، على خلفية الدفاع عن الحليف المشترَك، سوريا.

احتفظت دمشق، منذ الخمسينيات، بعلاقات متينة مع موسكو؛ علاقات لم تفتر في كل المراحل، بل تعززت بلا انقطاع، حتى حين كان الاتحاد الروسي يترنح في أزماته الداخلية والخارجية، في فترة بوريس يلتسين. وعلى الجانب الآخر، ظلت القيادة السورية وفيّةً لتحالفها مع الجمهورية الإسلامية في إيران، منذ قيامها، وفي أصعب الظروف وأقساها. وبينما كان على السوريين الاختيار بين فض ذلك التحالف، مقابل عشرات المليارات والدعم السياسي، أو التمسّك به والتعرّض للحصار والهجوم والحرب، لم تتردد عاصمة الأمويين، لحظة واحدة، هازئةً بالوعود والوعيد معا.

الجمهورية العربية السورية، بحد ذاتها، وبسبب سياساتها المستقلة وبناها الانتاجية الوطنية ودعمها للمقاومة ورفضها الإذعان لإسرائيل، هي محلّ عداء الرأسمالية الامبريالية وحلفائها في الخليج وتركيا وإسرائيل. لكن الحرب على سوريا، حفزها، أيضا، عاملان رئيسيان، هما حرمان الروس من آخر حلفائهم العرب، وتقليص النفوذ الإيراني ومحاصرة إيران، عربيا، وتركيعها. وبهذا المعنى، فالحرب على الدولة الوطنية السورية، هي حرب عالمية، كما هي عالمية بسبب الحلف الدولي الذي يشارك فيها، سياسياً واستخبارياً وعسكرياً وأمنياً وإعلامياً.

روسيا وإيران وسوريا، إذاً، في خط سياسي عالمي وإقليمي واحد. لكن، مَن قال إن مصالح الحلفاء متطابقة دائما؟ ومَن قال إن تعارض المصالح الحليفة لا يمكن حله بالتفاهم الودي في سياق الحلف نفسه؟

دعمت روسيا التوصل إلى تسوية نووية ملائمة لطهران والعواصم الغربية. ومن نتائج هذه التسوية الاعتراف بإيران قوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط؛ من حق الإيرانيين أن يتطلعوا إلى هذه المكانة، ومن حق الروس أن يعترضوا، ويعملوا على ضبط حركة حليفهم الإيراني، ومن حق سوريا أن تظل مستقلة، إزاء الأعداء كما إزاء الأصدقاء، ومن حقها أن تثمّر صمودها في دور مركزي في إعادة بناء النظام العربي، وقيادته. وتحقق هذه المعادلة، المصالح الاستراتيجية للحلفاء الثلاثة: روسيا تستعيد مركزها الخاص في العالم العربي، وإيران تفيد من علاقتها المميزة مع سوريا، للتواصل الإيجابي مع الدول العربية السنية، وإحلال التعاون محل التوتر المستمر في العلاقات الإيرانية ــــ العربية، وأخيراً، يفيد السوريون من تعدد الحلفاء والأصدقاء لاحتلال الموقع الرئيسي في النظام العربي، وتوظيف كل ذلك في معركة استئصال الإرهاب وإعادة البناء والتحرير.

من الواضح أن روسيا وسوريا، هما، اليوم، أقرب إلى تكوين معادلة إقليمية لا تتطابق، بالضرورة، مع السياسة الإيرانية. وتقوم هذه المعادلة على المصالحة السورية ــــ السعودية، لوقف الحرب على سوريا، والتوصل إلى تسوية في اليمن، تنقذ السعوديين من ورطة الحرب وتحافظ على الحد الأدنى من مصالحهم في البلد الجار الثائر، تحت عنوان عريض هو مكافحة الإرهاب.

مصر ــــ المتلهفة، بالأصل، على التنسيق السياسي والأمني والعسكري مع سوريا، والتي تحظى بعلاقات طيبة مع كل من روسيا والسعودية ــــ ستجد، أخيرا، مكانها في السياسة العربية، وتحصل على الغطاء القومي لمواجهة الإرهابيين في سيناء وليبيا.

يحدث كل ذلك في مسار تقوده روسيا في لعبة شطرنج معقدة، بينما يسعى البيت الأبيض إلى تفاهمات سريعة مع طهران حول الملفات الساخنة. وقد حدث ذلك في الملف العراقي فعلاً؛ فالاعتراف الأميركي بـ «الحشد الشعبي» العراقي، وإعلان التحالف معه ضد «داعش»، لم يحدثا مصادفة، وإنما كنتيجة لتفاهمات لن تعترضها موسكو أو دمشق، لكنهما ستكونان مضطرتين، لاحقاً، في سياق مفاوضات المصالحة مع السعوديين، إلى القيام بمداخلات تأخذ هواجس الرياض، بعين الاعتبار.

تتمحور هواجس الرياض حول ما تراه من مخاطر «التمدد الإيراني»، وبعدما وجدت أن الولايات المتحدة مصممة على تصفية ملف الخلافات مع إيران، توجهت نحو روسيا، للحصول على مظلة دولية إضافية ومفاعلات نووية وأسلحة نوعية. تركّز النقاش الروسي ــــ السعودي، أولا، على صفقات سلاح طلبها السعوديون، وجاري العمل على التعاقد بشأنها، ثم امتد، ثانيا، إلى الشأن النووي، وثالثا، إلى اليمن وسوريا، وصولا إلى خطة إنشاء الحلف الرباعي (سوريا والسعودية وتركيا والأردن) ضد الإرهاب.

التحالف السوري ــــ الإيراني متين جدا، ومستمرّ، لكنه، أولا، غير كاف لتحقيق المصالح السورية، وهو، ثانيا، قد استقر على مرونة تسمح بإدارة الخلافات داخله؛ وحدث ذلك مراراً: في الحرب العراقية ــــ الإيرانية، عملت دمشق على عدم توسّعها لتشمل الخليج، وفي سنة 86، حينما أصبح التراب الوطني العراقي مهدداً، كان الرئيس الراحل حافظ الأسد، مستعداً لاتحاد سوري ــــ عراقي، وتخيير إيران بين وقف الحرب أو محاربة البلدين معا. ومنذ 2003 حتى 2011، كانت السياسة السورية في العراق، في حالة مواجهة مستمرة مع السياسة الإيرانية. ومنذ سنتين، نشب الخلاف بين الحليفين حول الموقف من «حماس» و»الإخوان» والموقف من مصر السيسي، ومن تركيا أردوغان. غير أن كل ذلك، لم يهزّ التحالف الوثيق العميق بين دمشق وطهران.

دفعت سوريا أتاوة التاريخ بالدم؛ وها هي تخرج من سنوات الحرب الضروس، أقوى من أي وقت مضى، وقادرة، أكثر من أي وقت مضى، على إدارة سياسات إقليمية ودولية، أكبر من حجمها الفعلي، ولكنها تظل، بالطبع، أصغر من حجمها الرمزي.