هل تراجع التطبيع العربي مع النظام السوري بسبب «الفيتو» الأميركي – الأوروبي فقط؟ هل تعذّر «الإجماع» هو ما حال دون استعادة سورية عضويتها في الجامعة العربية؟ هل كانت العودة العربية الى «سورية – الاسد» لو حصلت، لتساهم في تقليص النفوذ الإيراني، كما حاولت روسيا وبعض أوساط النظام تسويقها؟ أم كان هدفها جعل العرب شركاء لروسيا وايران في تعويم النظام على رغم وضوح الأسباب الموضوعية التي تجعل من إعادة تأهيله دولياً، وبالتالي داخلياً، أشبه بالاستحالة؟ والأهم، هل كان للتطبيع العربي أن يفعّل حلاً سياسياً حقيقياً للأزمة السورية، كما تحاجج موسكو مع أنها لم تبدِ يوماً أي استعداد لدفع النظام الى أي تنازل أو حتى لتجاوز الشروط الاسدية – الإيرانية لتشكيل اللجنة الدستورية؟
في كل الأحوال برهن الأسد بزيارته طهران أنه لم تكن لديه خطة ولا إرادة حقيقية للخروج من تحت المظلة الإيرانية، وأنه على رغم انكشاف نظامه والخراب الذي عمّ سورية لا يزال يعتقد، كما تبيّن منذ محادثاته مع العاهل السعودي عام 2009، أنه وايران يشكّلان الخط السليم وما على العرب سوى الانضمام الى هذا الخط كخيار وحيد أمامهم. في الوقت نفسه كانت رحلته السرّية ولقاؤه مع المرشد علي خامنئي مؤشّرين، أولاً الى نهاية مراهنته على إنقاذ عربي لنظامه، وثانياً الى استياء شديد متصاعد من الحليف الروسي الذي استاء بدوره من تلك الزيارة وعدم إبلاغه بها مسبقاً.
والواقع أن أسباب الاستياء تكاثرت على الجانبين في الأشهر الأخيرة، ومنها: منع روسيا النظام وايران من استغلال الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سورية، إصرار روسي على تنسيق استراتيجي واسع مع اسرائيل وتركيا، غموض الأهداف الروسية بالنسبة الى نشر صواريخ «اس 300» ووضعها تحت اشراف عسكريين موثوق بهم، اعتماد قيادة حميميم على وحدات تابعة لها في الجيش وتعزيزها بأسلحة متطورة مع تهميش وحدات أقرب الى الأسد وشقيقه ماهر، وأخيراً وليس آخراً تعمّد الروس إعادة نشر صور تظهر التقليل الروسي من احترام الأسد وبينها صورة في احدى قاعات الكرملين تظهره واقفاً وحده فيما كان الرئيس الروسي منهمكاً بنقاش مع أعوانه.
غير أن لاستياء موسكو أسباباً روسية بحتة، فهي استهلكت وقتاً طويلاً قبل أن تتيقن بأن حسمها الصراع عسكرياً بالطريقة الوحشية التي أرادتها (مع النظام وايران) لم يسهّل حسمه سياسياً بالطريقة العشوائية التي تريدها (مع النظام وايران). لكن الأهم أن روسيا اكتشفت أن طبيعة النظام السوري واحتضانها له – تحديداً لرئيسه – يعوّقان حركتها الدولية سواء لبلورة توافقات تتعلّق بالحل السياسي أو لعقد اتفاقات تيسّر عودة المهجّرين أو لاجتذاب الأوروبيين الى صفقات لإعادة الإعمار. أكثر من ذلك، تكشّف وضع ما بعد الحسم العسكري عن أزمة اقتصادية – مالية حادة باتت تهدّد الاستقرار في مناطق سيطرة النظام، خصوصاً في حاضنته المذهبية المباشرة، من دون أن تستطيع روسيا وايران معالجتها بضخّ مزيد من المساعدات، إذ كانتا على العكس تعتقدان أنهما ستباشران في هذه الفترة جني نتائج «استثمارهما» في سورية، اعتماداً على مداخيل قطاعات ومشاريع أجاز لهما النظام احتكارها وإنشاءها.
لا بدّ من التذكير دائماً بأن روسيا كانت حدّدت لتدخّلها هدفاً ورهاناً رئيسين يتمثّلان باستخدام سورية ورقة لتحقيق مكاسب دولية بابتزاز الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لكن هذا الرهان سقط عملياً. إلاّ أن موسكو – على عكس الأسد – لا ترى أن الرهان على الجانب العربي سقط حتى لو كان التطبيع قد أرجئ، بل حتى لو تمّ التراجع عنه تمشياً مع آراء اميركية وأوروبية. فواشنطن تخوض اشتباكاً مع روسيا وايران وتركيا، وتقيم تعاوناً صلباً مع إسرائيل في ما يخصّ سورية، يصعب القول أن لديها ما تعرضه على العرب مقابل «الفيتو» على التطبيع مع الاسد أو أن سياستها واضحة بالنسبة إليهم بل إنها بالأحرى مثيرة للشكوك في ما تخططه لشمال شرقي سورية بسبب تكاثر التحليلات والشواهد عن سعيها الى التقسيم من خلال دعم الأكراد. أما موسكو فيمكنها أن تعرض صفقة أو صفقات سورية على العرب من جهة، وعلى إسرائيل من جهة أخرى بدليل تطوير التنسيق المعمّق معها.
في ظلّ إحجام واشنطن عن دخول أي مساومة معها، كان لا بد أن تنشّط روسيا التحاور مع أي طرف يقرّبها من الولايات المتحدة أو يعوّضها خسارة التعاون مع اميركا، وهذا ما تفعله سواء عبر العرب، أو عبر إسرائيل، آملة في اجتذاب واشنطن ولو بعد حين. وفي تقدير العديد من المراقبين فإن موسكو بدأت تتحدّث حالياً، تلميحاً وتصريحاً، في كل ما اعتبرته سابقاً غير قابل للنقاش. بل يبدو أن تحاول بلورة «صفقة» أو ما يشبه «رزمة» تتضمّن معالجة للمعضلات الثلاث التي تشغل العرب: الأسد وإيران وتركيا. ويلاحظ أحد المصادر أن الأفكار الروسية تعكس مراجعتها لمستقبل دورها في سورية، متمسّكة أولاً وأخيراً بمصالحها، ولذلك فهو يتوقّع أن تمضي بعيداً في ما تطرحه شرط أن تحصل على ما تريده في المقابل. ويقول مصدر آخر أن «الثمن» المرتفع الذي دأب الروس على طلبه لقاء البحث في مسألتَي الاسد وايران أحبط أي مساومة محتملة لكنهم يبادرون الآن الى «تحريك السوق» سعياً الى مساومة بشروط مختلفة.
إذا صحّت هذه التوقّعات فإن التخلّي عن الأسد لم يعد مستبعداً، لكن ليس وارداً التخلي عن النظام، إذ يشرح الروس أنهم يعملون في العمق لتصويب سلوك البنية العسكرية – الأمنية. لم تعد أيضاً مستبعدة الرغبة الروسية في تقليص النفوذ الإيراني، فالتجاذبات بين الطرفين تتزايد سواء بالاغتيالات أو بتسريحات وعمليات نقل للعسكريين من مواقع الى أخرى، أو بخلافات على مناطق سيطرة والتضييق على عمل الميليشيات، أو الأهم بتوفير تسهيلات للضربات الإسرائيلية لمواقع الإيرانيين والسوريين المتعاونين معهم. أما بالنسبة الى تركيا فيقول الروس أنهم من جهتهم يضمنون حدود دورها في سورية لكنها تخوض حالياً معركة تضارب التوفيق بين مصالحها مع الولايات المتحدة وروسيا في آن.
الأرجح أن الاسد وايران يستشعران التغيير في المزاج الروسي، إذ لم يعد متوافقاً مع خططهما كما كان في الأعوام الثلاثة الماضية، ومع ضيقهما من بعض ممارساته الميدانية إلا أنهما يضعانها في سياق المتوقّع. غير أن الإشارات التي أبدتها موسكو باستعدادها لتجميد مسارَي استانا وسوتشي، وللتفكير في العودة الى مسار جنيف للحلّ السياسي، أشعلت الضوء الأحمر في دمشق وطهران. من هنا أن جلب الأسد للتشاور مع خامنئي كان تعبيراً عن توجّس مشترك من «الحليف» الروسي. ويعتبر قريبون من رئيس النظام أن الاساءات الروسية له بلغت حدّاً يستفزّ مشاعره الانتقامية المكتومة ويحضّه على الردّ. لكن طهران أفهمته أن ردّه الأفضل يكون بتعزيز موقع ايران في سورية وتنفيذ الاتفاقات التي وقّعها معها.
نصّت مذكرتان إداريتان على تشكيل هيئتين للتفاوض على اتفاق استغلال إيران ميناء اللاذقية وادارته، واتفاق آخر لاستغلال حقل نفطي. وأبلغ أحد رجال الأعمال السوريين نظراء له في بيروت أن محادثات بلغت مرحلة متقدمة لإصدار ترخيص لجهة إيرانية بتأسيس شركة ثالثة للهواتف النقالة. كانت روسيا عارضت مبدأ وجود إيران في موقع على المتوسط، ومنعت استحواذها على أي حقل نفطي، وعرقلت دخولها مجال الاتصالات. واستناداً الى ما نُقل عن مبعوثين للاسد فإنه ماطل في تنفيذ الاتفاقات مع طهران لأنه أراد «حجز» هذه القطاعات لتسهيل العودة العربية. لكن حقده المتصاعد على الروس دفعه الى تجاوز اعتراضاتهم على هذه المشاريع وتجديد مراهنته على تحالفه مع ايران. أما يأسه من العرب فلم يدفعه فقط الى «حرمانهم» من استثمارات مفترضة بل أوعز الى بعض الدوائر لحصر الاستثمارات العربية الموجودة، التي توقف العمل فيها بسبب الأزمة، وإعداد الملفات والديباجات «القانونية» المناسبة بغية الاستيلاء عليها.