تدرّج التدخل الروسي المباشر في سورية من استخدام حق النقض في مجلس الأمن، إلى إرسال القوات الجوية والبرية لاستخدام حق النقض على الأرض السورية. لم تبتعد من جادة الصواب القراءة التي رأت أن انتقال الطرف الروسي من وضعية التدخل البعيد إلى وضعية المهاجم القريب، قد تمَّ بعلم أميركي لم يتّخذ شكل الجلوس إلى الطاولة وتوزيع المهام التدخلية بين المتحلّقين حولها، لكنه اتخذ شكل الإجازة الصامتة التي تتلاءم وخطة الانسحاب المتدرج من أرض الميدان، أي الخطة التي لازمت عهدي الرئيس الأميركي باراك أوباما، وانطوت على سياسة لملمة ثوب الولايات المتحدة الأميركية، من حلقات النار التي أشعلها تدخّلها في البلدان الآسيوية والعربية.
اقتصر الصمت على الإجازة الميدانية، واستمرّ الضجيج الأميركي الديبلوماسي كتغطية على الصمت في الميدان، وما كان لبعض القصف المتباعد الأوقات والعشوائي الأهداف، أن يشكل خرقاً مقنعاً للانسحاب المتدرج الذي كان هو التعبير العملي عن فحوى ومضمون كل الإجازة الأميركية المعطاة لسواها فوق الأرض السورية، وضمن الحدود العراقية أيضاً.
ولكي لا يوحي النقاش بأن في الأمر تطلباً لدور إنقاذي أميركي، فإن الوضوح يقتضي القول إن السياسة الأميركية لم تكن في أي وقت من الأوقات تتطلع إلى هذا الدور في سورية، وقد عاكست التطورات هذه الرغبة التي راودت كثراً في صفوف مناوئي النظام السوري، مثلما دغدغت آمال شرائح واسعة من الذين أيدوا حركة الشعب السوري عند انطلاقتها، وظلَّ صف واسع من هؤلاء في موقع دعم هذه الحركة بعد أن توزعتها الفصائل والمرجعيات والسياسات، ما كان منها محلياً وما كان منها خارج الحدود. قد يكون قريباً من الواقع القول إن السياسة الأميركية لم تكن في صدد إطاحة رئيس النظام السوري، وربما أن ما أقلقها ما لدى النظام ورئيسه من أسلحة كيماوية، فلما أزيل خطر هذه الأخيرة، ترك الشعب السوري لشأنه، أي ترك للخراب العظيم الذي بات سيد الديار السورية اليوم، وترك للفوضى الكيانية والاجتماعية والسياسية العامة، التي دخل الطرف الروسي كلاعب أساسي إلى ساحاتها، ليديرها بالنار وفق برنامج عمل يضع في رأس أولوياته الحفاظ على النظام سالماً، والتمسّك بورقة رأس النظام سالمة أيضاً، من دون أن يكون الرأس مستبعداً من عملية البيع والشراء، عندما يأذن أوان المبادلات «التجارية».
ولكي يظل الطرف الروسي محتفظاً بلياقته التفاوضية، وممسكاً برشاقته في سوق العرض والطلب، بادر إلى تحصين حصته في العاصمة دمشق، ثم عمد إلى تأمين نطاقها الدفاعي، بحيث اتسع مدى هذا النطاق ليطاول ريف حلب، ويشمل ريف اللاذقية. وكاستكمال لعملية توسيع النطاق الدفاعي والإمساك به، يبذل الطرف الروسي جهداً ملحوظاً في توسيع النطاق السياسي الدفاعي عن النظام، الذي هو حصته، لذلك بادرت الديبلوماسية الروسية إلى تنظيم لقاءات لممثلين عن المعارضة وعن النظام، ولم يكن الاستقبال محايداً، بل إن تعريفات سبقت أسماء المرشحين لأن يكونوا في الصالات، وتصنيفات أعطيت لمن سيقدّر لهم الجلوس حول الطاولات، ولأولئك الذين سيكونون بعيدين منها، أو مستبعدين من كراسيها. مصطلح الإرهاب المطاط، كان الفيصل في التمييز، والخلاف حول تعريف المصطلح، كان أحد أسلحة إدارة الفوضى السورية، واستثمار الوقت المهدور بين تحديد المصطلح والاتفاق على تعريفه، كان يتم حثيثاً من الهجمات الجوية الروسية التي تواكبها هجمات قوات النظام البرية، وهجمات حلفائها، في أرض الميدان.
لقد تمَّ ذلك كله تحت شعار تمسّك الجميع بالحل السياسي في سورية، لكن التمهيد المطلوب لجعل الشعار مقبولاً من الجميع، ما زال يتم بوسائل قتالية، ويستند إلى متغيرات جغرافية، ويعيد الحسابات انطلاقاً من الحصيلة العامة لكل المستجدات التي تطرأ، في السياسة وفي ساحات المواجهة.
في اللوحة الراهنة، اتخذ الطرف الروسي وحلفاؤه وضعية الهجوم، أي المبادرة، في الوقت الذي انتقلت «المعارضة» إلى وضعية الدفاع، الذي يقترب من الانكفاء والتراجع. ترجمة ذلك تتم الآن في صيغة العودة عن اقتراحات سابقة، كانت تقدم كمشاريع حلول للأزمة السورية، ولا بد من ملاحظة الفرق بين السياق الذي جاء في ركابه مؤتمر جنيف الأول، وبين السياق الذي يمكن أن ينعقد في فضائه مؤتمر جنيف الثالث. طلائع التراجع بين المؤتمر الأول والمؤتمر الثالث، لاحت بوضوح في البند المتعلّق بمصير رأس النظام، بشار الأسد، فهذا الذي كان موضوعاً «خارج السياسة» المستقبلية لسورية، بات واحداً، وربما أساسياً، من فرقائها القادمين، وعليه، ما كان يلوح من فوز إجمالي للقوى التي خرجت على النظام، يكاد يبدأ بالإفصاح عن خسارة إجمالية لهذه القوى.
لا يبدو في الأفق حتى الآن، ما يعدِّل في هذه الخلاصة العامة، بل إن بعض المؤشرات يشير إلى تفاقمها. من هذه المعطيات: اقتراب الطرف الأميركي من التفسير السوري – الروسي، وإشغال القوى العربية المخاصمة للأسد في محاور مناوشة بعيدة من سورية، ومنها تقييد حركة التركي وضبطه، ومنها وهذا الأهم، التراخي الإضافي في إطلاق حرية اليد الروسية.
بمعيار الشروط الكيانية، التي تدمج بين التاريخ والشعب والأرض وسائر المكونات التي تتضافر لتشكيل اجتماع ما، بهذا المعيار تبدو سورية مرشحة لفوضى اللااستقرار، هذا كحكم مستقبلي، وتظهر روسيا، أنها الأنشط حالياً في التأسيس لهذه الفوضى التدميرية.