ما نشرته الصحيفة البريطانية «دايلي تليغراف» أول من أمس عن بحث علمي يكشف أن هدفاً واحداً من أصل 51 هدفاً ادعت موسكو أن طائراتها الحربية قصفتها في سوريا خلال فترة محددة، كان تابعاً لـ»داعش» والباقي لغيره! وما نشرته «هيومن رايتس ووتش» عن ارتكاب الروس مجازر فعلية في حق مدنيين سوريين، لا يفاجئ أحداً في الواقع، بل يراكم مستندات إدانة لكل ما تفعله القيادة الروسية، ويكشف اعتمادها المنهجي على الكذب الرخيص والتزامها مشروعاً يحاول تغيير وجه سوريا جذرياً.
الصحيفة البريطانية تقول إن مجموعة متخصصة قامت بتحليل 51 مقطعاً مصوراً أصدرتها وزارة الدفاع الروسية ونشرتها على موقعها الرسمي على «يوتيوب»، وتبين أن 15 منها يتلاءم مع الادعاءات في شأن مواقعها الجغرافية، وواحداً فقط يتبع لـ»داعش»!
وقبل ذلك التوثيق الغربي عن بُعد، كانت المعارضة السورية توثّق عن قرب وبالصوت والصورة حقيقة ما ترتكبه الآلة العسكرية الروسية في سوريا. وحقيقة وهوية كل هدف تقصفه، وكل مجزرة ترتكبها في حق المدنيين. ما يعني في المحصلة أمرين أساسيين. الأول، هو أن بوتين يعمل ميدانياً على سلّة أهداف وضعتها الجماعة الأسدية – الإيرانية، وهذه تعتمد المجازر في سياق استراتيجي وليس فقط في سياق عسكري عابر أو عارض. أي أنها تعتمد منطق الصهاينة الأوائل الذي يقول بقتل جزء لترهيب الكل. والذي عنى ارتكابهم مجازر محدودة في حق الفلسطينيين (أعتذر عن المصطلح التخفيفي لكنه حقيقي) لكنهم حصدوا نتائج واسعة النطاق تمثّلت بنكبة النزوح لمئات الألوف منهم!
موسكو اليوم، وعن وعي وتصميم واضحين، تشارك الأسد وطهران في استنساخ ذلك المثال التأسيسي الإسرائيلي، وفي محاولة رسم خريطة ديموغرافية جديدة لسوريا بالنار والترهيب والمناورة والمراوغة..
الأمر الثاني، هو أن القيادة الروسية تكذب بفجور في ادعائها محاربة الإرهاب. وتشارك في الواقع، من جهتها ووفق حساباتها، في لعبة اخترعها الأميركيون وسموها «الحرب العالمية على الإرهاب»… والواضح، أن الطرفين يعرفان تماماً الأوراق المخبأة عند كل منهما في هذه «الحرب». ويعرفان يقيناً أن الخطر الذي يشيّعانه عن «داعش» أكبر من حقيقة «داعش» هذا. وأن شعار «محاربة الإرهاب» فيه من البلف أكثر بكثير من الحقيقة. ومن الاستخدامات السياسية الانتهازية أكثر بكثير من المبادئ. إلا إذا افترضنا أن هذا العالم يصدّق فعلياً أن «داعش» أقوى من هذه «الحرب العالمية» عليه! وأقوى من طائرات واستخبارات واختراقات دول بحجم أميركا وروسيا وغيرهما كثير!
وذلك لا يلغي ولا ينفي، التعارض بين موسكو وواشنطن حيال الاستخدام السياسي لذلك المعطى.. بحيث إن الفريقين يستخدمان التكتيك ذاته (ادعاء محاربة الإرهاب) لكنْ كلٌ وفق أجندته الخاصة. بغض النظر عن حقيقة أن شعب سوريا يدفع الثمن المباشر وشعوب المنطقة بأسرها تدفع أثماناً غير مباشرة.
.. كيف بعد ذلك يصحّ استغراب «عمق التنسيق» الروسي الإسرائيلي في سوريا وفي شأن مستقبلها؟! وكيف بعد ذلك يمكن الركون إلى ادعاءات البحث عن تسوية فيما العمل جارٍ على الأرض في اتجاهات أخرى؟!