لم تكن الخطوة الروسيّة بسحب جزء من قوّاتها العسكرية من سوريا غريبة في المرحلة الحاليّة. هي نالت الاهتمام الكبير وأطلقَت عنان التحليلات على رغم أنّها أتت في سياق أحداث متتالية تتقاطع حول نقطة أساسية وهي دخول المنطقة في مرحلة التسويات، وبالتالي إدخال الأطراف إلى قاعة التفاوض وفقَ السقف المعقول.
صحيح أنّ الحكومة الروسيّة التي تعاني اقتصادياً بسبب انخفاض أسعار النفط عالمياً، تَكفّلت منذ أيلول الماضي تاريخِ دخولها العسكري المباشر في سوريا، بكافّة المصاريف الحربية، لكنّ هذا الجانب، على أهمّيته، لم يكن الجانبَ الأساسي في القرار الروسي. فالعقيدة القتالية الروسيّة معروف عنها اتّكالُها على الكثافة الناريّة، وبالتالي الكلفة العالية للمعارك الدائرة، في وقتٍ اضطرّت القيادة الروسيّة إلى خفض الموازنة العسكرية للجيش الروسي بنحو خمسة في المئة، تماشياً مع انخفاض المداخيل الروسيّة بسبب تراجع أسعار الغاز الطبيعي.
إلّا أنّه ومنذ بضعة أسابيع توصّلت السعودية إلى اتّفاق مع روسيا وغيرِها من الدول الأعضاء في منظمة «أوبك» على تجميد مستويات الإنتاج عند معدّلاتها في شهر كانون الثاني. هذا التدبير أدّى إلى إعادة رفع سعر برميل النفط، وهو ما يحتاجه الاقتصاد الروسي، والواضح أنّ السعودية ساهمت في ذلك من خلال تجميد حصّتِها في السوق. وقيل إنّ هذا التدبير لاقى استحساناً روسيّاً، وحيث تستعدّ موسكو لاستقبال الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز في موسكو قريباً. وبطبيعة الحال فإنّ الرياض نظرَت بإيجابية إلى القرار الروسي، ولو أنّه لن يعنيَ تغييراً جوهرياً في الموقف الروسي العام من الحرب السوريّة.
ولكنّ المفاجأة جاءت منذ يومين من طهران التي رفضَت تجميدَ إنتاجها فعاوَدت أسعارُ النفط انخفاضَها.
وهذا الجانب الاقتصادي، على أهمّيته، لم يكن السبب الرئيسي وراء القرار الروسي، فهنالك الأسباب السياسية وهي التي كوّنت مع الواقع الاقتصادي القرارَ الروسيّ.
في الأساس وعندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرار الدخول المباشر في الحرب السورية وضَع شرطين أساسيَين: الأوّل أنّ المشاركة الروسيّة ستكون من خلال الإسناد الجوّي والمدفعي والصاروخي، وأن تكون جميع القوّات الموجودة من سوريّة وإيرانيّة ومجموعات حزب الله تحت إمرة غرفته العسكرية التي أدارَها نائب رئيس الأركان، ومِن دون التورّط الروسي البرّي تحت أيّ ظرف كان.
والثاني أنّ لهذه المهمّة مهلة زمنية محدّدة تمتدّ إلى ما بين الأربعة والخمسة أشهر. ومع بدء مغادرة الطائرات الروسية كان قد انقضى على المهمة الروسية زهاء خمسة أشهر ونصف الشهر.
وحين زار الرئيس الروسي طهران ووقّع اتّفاقات تعاوُن استراتيجي بين البلدين كرّر التزامَه بأنّ للعملية الروسية في سوريا سقفاً زمنياً لن يتجاوزَه. ذلك أنّ الكرملين كان يدرك جيّداً أنّ مصلحة إيران، وتحديداً فريق الصقور فيها، أي المحافظين، توريط روسيا كلّياً في الحرب، وصولاً إلى المشاركة البرّية. وعند إسقاط تركيا للمقاتلة الروسيّة كان هنالك ارتياحٌ إيرانيّ إلى كون روسيا بدأت مسيرة الانزلاق في الوحول السورية. لكنّ موسكو والتي ما تزال تحتفظ بالذكريات البشعة عن تخبّطها في وحول أفغانسان آثرَت الانسحاب من الخطة الهجومية وهي في عزّ انتصاراتها.
لكنّ القرار الروسي لا يعني أبداً انسحاباً كاملاً أو تبديلَ المواقف والمواقع انطلاقاً من المصلحة الروسيّة المباشرة. فالقاعدة البحرية في طرطوس إضافةً إلى مطار حميميم يشكّلان مصلحةً حيوية استراتيجية، خصوصاً وأنّهما يَسمحان لروسيا بإبقاء خطوطها مفتوحة على المياه الدافئة، أي البحر الأبيض المتوسط، وإلى جانب هذا الحضور والذي يسانده ما بين خمسة إلى ستة آلاف ضابط وجندي، أبقَت روسيا على شبكة صواريخها المضادة للطائرات «اس . 400 « وهي الأحدث في العالم، لا بل أكثر، إنّ الطائرات الروسيّة التي بقيَت في سوريا تشاركُ في معركة استرجاع تدمر، والتي ستنتهي خلال أيام، إضافةً إلى مهمّة حماية كلّ المناطق الخاضعة للنظام السوري أو ما بات يُعرف بـ«سوريا المفيدة». فقط العمليات الهجومية توقّفت بعدما نجَحت روسيا في مساعدة النظام على استرجاع زهاء عشرة الآف كلم ضمن حدود سوريا المفيدة.
والأهمّ أنّ الخطوة الروسية جاءت بعد استدارة تركيا التي استبدلت أوراقَ الضغط على أوروبا من خلال السماح بتهريب النازحين، بطاولات التفاوض والتفاهم والتعاون، واستدارة تركيا الأهمّ كانت مع طهران، حيث قيل إنّ أنقرة طلبَت التفاهم مع روسيا وتعهّدت بإغلاق كافة منافذِها الحدودية مع سوريا، ولذلك ربّما تصاعدَت العمليات الانتحارية داخل تركيا مستهدفةً المقارّ الحكومية بعدما كانت في السابق تستهدف مواقع كردية دون سواها.
إستدارة تركيا تعني تحديداً تجميدَ أحد أهمّ الأطراف المساندة لمعارضي الأسد لحركتها. وفي خطوةٍ أخرى، وفي السياق نفسِه، جاء كلام الرئيس الأميركي باراك اوباما قاسياً في حقّ المملكة العربية السعودية، حيث طالبَها بوقف دعم المجموعات الإرهابية، ووصَفها بالراكب الجاني الذي لا يفعل شيئاً في سبيل تحقيق السلام، ودعاها إلى البدء بالتفاوض مع إيران حول مشكلات المنطقة وأزماتها.
الردّ السعودي جاء على لسان الأمير تركي الفيصل الذي انتقَد بدوره كلامَ أوباما قبل أن يعود ويعلنَ موافقة بلاده على التفاوض مع طهران شرط إعلان إيران سحبَ قوّاتها من سوريا. وجاء القرار الروسي مشابهاً في مفاعيله للموقفَين؛ التركي والطلب الأميركي من السعودية.
المرحلة الحربية انتهَت ومرحلة التفاوض بدأت، وعلى الجميع خفضُ سقفِه والانخراط في العملية التفاوضية.
الكواليس الديبلوماسية تضجّ بتقارير عن الاستعدادات الجارية في الموصل بين الجيش الاميركي والجيش العراقي للقضاء على المعقل الأساسي لـ»داعش»، ما يعني أنّ ورقة «داعش» حقّقت مراميَها واستُنفدت، والقرار بتصفية حضورها بدأ، خصوصاً أنّ هذا التنظيم يعزّز حضوره في ليبيا، في وقتٍ تستعدّ العواصم الغربية لخنقِه هناك ومنعِه من التمدّد السريع في أفريقيا وتهديد عمق الأمن الأوروبي.
وكان لافتاً مسارعة وزير الخارجية الإيراني المحسوب على الإصلاحيين للترحيب بالقرار الروسي واعتباره مساعداً للتسوية السياسية، فيما سُجّل صمت مطبق لدى فريق المحافظين. وهذا ما يعزّز الاعتقاد حول النزاع الإيراني الداخلي الحاصل، وحيث تعزّز وضع الإصلاحيين بعد الانتخابات الأخيرة. لكن كي لا نقرأ خطأً فإنّ النزاع الإيراني الداخلي يكون لمصلحة الدولة وليس على طريقة التناحر، كما يحصل في العالم العربي.
وهكذا أيضاً لم يكن خارج السياق طرحُ موسكو للصيغة الفدرالية في سوريا، وهو ما يَعني الإقرارَ بإقليم مستقلّ للأكراد داخل الدولة الاتّحادية، وهي صيغةٌ ترفضها تركيا بشدّة، حيث يسيطر أكراد سوريا على شريط طوله 400 كلم مع تركيا، كذلك ترفضه إيران حيث تخشى الدولتان انتقالَ عدوى الانفصال إلى المجموعات الكردية الموجودة داخلهما، وهذه نقطة تبايُن إضافية بين إيران وروسيا، إضافةً إلى القرار الروسي المنسجم مع التفاهم الأميركي حول وقفِ الحرب الدائرة الآن. لكنّ التباين لا يفسِد في الود قضية. فالتوافق حول العناوين الكبرى ما يزال قوياً.
وزير الخارجية السورية وليد المعلّم كان قد عكسَ مناخَ الرئيس السوري والمتفاهم حوله مع فريق المحافظين في إيران: «الحرب مستمرّة والرئيس السوري خط أحمر، والحلّ سيكون عسكرياً، وهنالك غالب ومغلوب». فيما الردّ الروسي جاء واضحاً من خلال قراره سحبَ بعض طائراته «الحرب توقّفت، والتسوية السياسية بدأت، وملتزمون بحصّة حلفائنا في سوريا أكانت جغرافية أم سياسية».
ولكلّ ذلك انعكاسُه على لبنان بطبيعة الحال، حزب الله المحسوب على فريق الحافظين في إيران، وانسجاماً مع مبدأ الأزمة المفتوحة والحرب الطويلة في سوريا، بقيَ خلفَ العماد ميشال عون كخَيار رئاسي، في وقتٍ يتّهمه خصومه بأنّه بخَياره يريد إبقاءَ الأزمة اللبنانية مفتوحة لمزاوجتها مع الحرب في سوريا.
ومع التطوّر الجديد ودفعِ جميع الأطراف في المنطقة إلى خفض سقوفها السياسية وإدخالها عنوةً في ورشة التسويات السياسية، لا بدّ من أن يكون لذلك انعكاسُه على لبنان.
فهل هذا يعني أنّ موعد الاستحقاق الرئاسي لم يعُد بعيداً؟ ربّما.