Site icon IMLebanon

روسيا أكثر ميلاً إلى حلّ عسكري يطوّع السياسي

لم تستخدم روسيا حق النقض ضد القرار 2254، لأنها، بعد أربعة أعوام على «الفيتو» الأول، حصلت على النص الذي يريحها، خصوصاً بعدما أصبحت معنيّة مباشرة بالأزمة وليس فقط ببيع الأسلحة الى النظام السوري. وكانت بدأت عملياتها العسكرية قبل صدور القرار بإجماع مجلس الأمن، فارضة «فيتوات» في أكثر من اتجاه، تحديداً ضد المعارضة المسلّحة، وفي طليعتها «الجيش السوري الحرّ»، ثم ضد تركيا ودورها متذرّعةً بإسقاط الـ «سوخوي 24».

وبعد صدور القرار، ما لبثت أن باشرت عمليات الشطب من المعادلة: ضد «جيش الإسلام» باغتيال قائده، ضد «أحرار الشام»، ضد «جيش الفتح»، ضد المعارضة التي انبثقت من مؤتمر الرياض، وضد وفد المعارضة الى المفاوضات ما لم يضمّ ممثلين لما تسمّى «معارضة موسكو». وترغب روسيا عملياً في شطب شيء اسمه «بيان جنيف 1»، أو «عملية انتقالية» تطمح الى تحديد «مصير بشار الأسد». وبالتالي، فهي تتظاهر بانتظار «قائمة التنظيمات الإرهابية»، مع أنها تتبنّى تصنيفَ النظام لكلّ مَن يقاتله على أنه «إرهابي». أي أنها تسعى استطراداً الى حل عسكري للصراع تطويعاً للمفاوضات المزمعة وللحل السياسي المرسوم لديها مسبقاً.

أبسط ما يمكن قوله أن القرار 2254 الذي وُصف بأنه إنجاز دولي «توافقي»، وأنه وضع «خريطة طريق» الى حلٍّ سياسي للأزمة قوامه التفاوض بين المعارضة والنظام، أصبح غداة إقراره سلاحاً أضافته موسكو الى ترسانتها العسكرية للمضي في إضعاف المعارضة والسعي الى تصفيتها، فلا يحلّ الموعد المحدّد للمفاوضات إلا وتكون معالم الصراع قد تغيّرت ولا يعود هناك ما يمكن التفاوض عليه، أو يكون الضغط على المعارضة بلغ حدّ ابتزازها للقبــــول بتنازلات لا تستطيعها، وابتزاز الدول الداعمة لها، بحيث تطالب بمعاودة لقاءات فيينا للتداول حول «خريطة طريق» معدّلة والذهاب مجدّداً الى مجلس الأمن. لا تفسير آخــر للتصعيد العسكري وفقاً لسياسة الأرض المحروقة التي اختطّها الـــروس، متابعةً واستكمالاً لنهج نظام الأسد. صحيح أن ليس هناك أي ترتيب لوقف إطلاق النار أو لهدنة، لكن المتداول عن «لقاءات فيينا» أن الدول المعنية لم تتّفق على أي تصفية للمعارضة ما دام التفاوض هو الهدف والوسيلة، بل لعلّها قبلت ولو بشيء من الغموض – كالعادة – تفاهماً ضمنياً على تجميد الوضع الميداني والعمليات القتالية لتمكين المعارضة المقاتلة من تكييف نفسها مع واقع المفاوضات.

هنا يُطرح السؤال، تكراراً، عن حقيقة النسخة الأحدث من «تفاهمات» الأميركيين والروس. ذاك أن الهدف، أي التفاوض، يتآكل سريعاً بفعل ما هو حاصل على الأرض. وعلى المدى القصير، يصعب الحفاظ على ضوابط لطرف على حساب الآخر، ولا يجوز أن تكون واشنطن أمضت الأعوام الأخيرة في استدراج بطيء لـ «أصدقاء سورية» الى الرضوخ لسياسة روسيا السورية، بعدما عبّرت مراراً عن ضيقها منها وتمنّت إعلامياً أن «تتحرّك» أو «تتغيّر». ولعل في تسريبات واشنطن الى «وول ستريت جورنال» وسيمور هيرش، ما يكشف الوجه الآخر الأكثر واقعية للموقف الأميركي. فإذا كان جنرالات البنتاغون يجدون أنفسهم أقرب الى آراء نظرائهم الروس والألمان والإسرائيليين، منهم الى آراء رئيسهم باراك أوباما وإدارته، تكون موسكو أكثر واقعية إذ تتواطأ مع «القناة الخلفية» لتلك الإدارة. لكن إذا كان استحقاق التفاوض قائماً فعلاً، فإن لحظة المكاشفات بين أميركا وحلفائها قد حانت، لأن النظام أوضح أنه مستعد للذهاب الى مفاوضات على «حكومة وحدة وطنية» (يتبنّاها الروس والإيرانيون والأسد، وفقاً لبياني فيينا وعبارات غموض غير بنّاء في القرار 2254)، وليس الى مفاوضات على «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة» (يُفترض أن أميركا وحلفاءها والمعارضة يؤيّدونها وفقاً لبيان «جنيف 1» والقرارين 2118 و2254).

لا شك في أن الخلاف البيّن على منطلق المفاوضات وجوهرها، وعلى تركيبة وفد المعارضة، وعلى تصنيف الجماعات المقاتلة، وعلى التناقض بين «جنيف» و «فيينا»، يفيد بأحد أمرين: إمّا أن تفاهمات كيري – لافروف تتجاوز القرار الدولي، وإمّا أن توافقات فيينا بنيت أساساً على تكاذب فرضه ميزان القوى الذي حسمه الوجود الروسي لمصلحة النظام. في الحالين، هناك تلغيم دولي للمفاوضات قبل انطلاقها، ومن حق المعارضة أن تعتقد أن اميركا تخدعها أو بالأحرى تواصل خداعها، وبالتالي ثمة حاجة ملحّة الى جلاء حقيقة التوافقات الدولية. فالمفاوضات لن تحصل في ظل استمرار تصعيد عسكري استئصالي الأهداف، لأن المعارضة المقاتلة ستسحب عندئذ موافقتها على الحل السياسي لتتفرّغ لمحاربة «الاحتلال الروسي»، كما أن المعارضة السياسية لن تتمكّن من الذهاب الى مفاوضات فيما يتعمّد الروس قتل المدنيين وتدمير بيوتهم، وقد تسببوا حتى الآن بتهجير ما يقارب نصف مليون سوري.

لا يجهل الأميركيون والروس أن الظروف لم تنضج للتفاوض، ما يرجّح تفاهمهما غير المعلن على فرضه بقوة الأمر الواقع: الضغط على الدول الداعمة كي تقطع مساعداتها للمعارضة المقاتلة، وتركها فريسة لضربات الدب الروسي. وفي هذه الحال، لن تكون مفاوضات بين النظام والمعارضة الحقيقية (المعترف بها – بغموضٍ أيضاً – في القرار 2254) بشقّيها السياسي والعسكري، بل إن التصعيد العسكري سيبدو مجرد تغطية لمفاوضات تلفيقية بين النظام و «المعارضة الموالية له» وفق توليفات ستيفان دي ميستورا. وهذه لن تأتي بأي حل سياسي مرشح لإنهاء الصراع، بل ستفتح الأبواب لتبرير حرب «جهادية» أخرى على النمط الأفغاني حين كانت موجّهة لطرد المحتلّين السوفيات، وتدلّ أشرطة يوتيوبية كثيرة على أن مقاتلي المعارضة دخلوا منذ فترة هذا المزاج المعادي لروسيا، وتدفعهم شدّة الضربات الى التجذّر فيه.

كيف تبخّرت الأفكار الروسية عن إعادة تأهيل الجيش ليكون سورياً وليس أسدياً، ولماذا تخلّت موسكو عن خيار اجتذاب «الجيش الحرّ»، وهل أن حاجتها الى النظام ودعمها له ينطويان على اعتناق لخياراته، ومنها إجهاض البحث عن حل سياسي لمصلحة السعي الى حل عسكري، وهل بلغ إعجاب الروس بالسيناريو الإيراني في العراق حدّ تكراره في سورية باستدعاء الإرهاب استدعاءً تحت مظلّة مفاوضات زائفة، وهل أن «تفاهمات» أميركا وروسيا تسمح لطرفيها بالتعايش على رغم خلافاتهما فحسب، ولا تتيح لهما إدارة حل منصف لسورية وشعبها، وماذا عن «الحرب على داعش» اذ يتعذّر تزامنها مع انطلاق حل من دون الأسد؟.. أسئلة مشروعة في ظل اهتزاز الثقة بمصداقية كل «عملية فيينا» والقرار 2254 الذي أنتجته.

الواضح أن عناصر «الصفقة» الدولية في شأن سورية لم تتضح معالمها بعد، لكن تكفي مراقبة حركة لاتصالات بين دول لقاءت فيينا للقول إن المساوات بدأت، خصوصاً في ما يتعلّق بالمجموعات «الإرهابية» التي سيتمّ إقصاؤها عن أي «عملية سياسية، ما يعني أيضاً إضعاف تأثير الدول المشتبه بها بتمويلها. وقد يكون أحد عناصر «الصفقة» ما يُلمس من تراجع ظاهري للدور الإيراني. إذ إن تثبيت نفوذ إيران وتمكينها من صيانة أوراقها للمساومة، لن يستقيما مع استبعاد تركيا من المعادلة وعدم أخذ المصالح العربية في الاعتبار، بل ينذران بصراعات إقليمية دائمة بين المستفيدين والمتضرّرين، ما قد يتطلّب وجوداً روسياً دائماً تفرضه التطورات والضرورات حتى لو لم تكن موسكو راغبة فيه. لكن هذا الوجود الروسي نفسه آخذ بالتحوّل أكثر محوراً للتأزيم منه حافزاً على التهدئة.