منذ بداية الصراع السوري، شكلّت روسيا نوعاً من شبكة متعددة الطبقات، سياسية وديبلوماسية وعسكرية، لحماية النظام، كما حاولت فرض رؤية خاصّة بها للصراع الجاري، لتبرير تدخّلها فيه، باعتبار الأمر يتعلق بالدفاع عن سيادة سورية إزاء التدخلات الخارجية، ومن أجل حماية الدولة، ومنع تقسيم البلد، وباعتبار أن ما يُجرى هو بمثابة حرب طائفية أو حرب ضد الجماعات الإرهابية، في إنكار من موسكو للطابع السياسي للصراع، وفي تنكّر منها لتوق السوريين للحرية والمواطنة والديموقراطية.
هكذا في البداية استخدمت روسيا مكانتها السياسية والديبلوماسية الدولية لتأكيد ذلك، عبر تكرار استخدام «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي، ومعارضة إنشاء مناطق آمنة أو مناطق حظر جوي، وتشجّعت في كل ذلك من لامبالاة الإدارة الأميركية السابقة. في كل الأحوال فقد توّجت هذه الجهود الروسية، أولاً، في كبح أي عقوبات دولية ضد النظام بسبب استخدامه البراميل المتفجرة في بطشه بالسوريين وتدمير مدنهم، ولا سيما في الحؤول دون أي ضربة أميركية ضده بعد استخدامه السلاح الكيماوي في الغوطة (2013)، إثر التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن. وثانياً، في تمييع روسيا مضامين بيان جنيف -1 (2012)، لا سيما البند المتعلق بإنشاء «هيئة حكم انتقالي» ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، إذ إضافة إلى كل ذلك فقد دعمت روسيا وفد النظام، في كل جولات المفاوضات في مسألتين: أولاهما، التركيز قبل كل شيء على الحرب ضد الإرهاب، واتهام فصائل المعارضة كلها بـ «الإرهاب». وثانيتهما، في رفض التعامل مع وحدانية تمثيل وفد المعارضة باعتبار أن ثمة منصّات أخرى للمعارضة.
ويمكن التأريخ لمرحلة ثانية من التدخّل الروسي في الصراع السوري، بتحوّل روسيا نحو التورط مباشرة في هذا الصراع باستخدام قوتها العسكرية، ولا سيما سلاح الطيران، قبل عامين (في أيلول- سبتمبر/2015). وبالنتيجة، فإن هذا التدخّل غيّر كثيراً من موازين القوى ومن معادلات الصراع في هذا البلد، بل إنه غيّر حتى تموضعات اللاعبين الإقليميين الكبيرين فيه (إيران وتركيا)، إذ لم تعد إيران هي التي تتحكم وحدها بقرارات النظام، أو بمسارات الصراع في سورية، ولا حتى بمآلاته، بينما كيّفت تركيا سياساتها، أو تدخلاتها في الصراع السوري الدائر، بحيث تأتي متوافقة مع السياسة الروسية، ومع رؤيتها لأمنها القومي، باعتبار أن أولويتها منع نشوء كيان كردي مستقل في سورية، قد تمتد تداعياته إلى تركيا ذاتها، ناهيك بحسابات أخرى لها علاقة بتحجيم النفوذ الإيراني على حدودها الجنوبية، سواء في سورية أو في العراق.
وفي المحصلة، فإن فاعلية الطيران الروسي، وقوته التدميرية الهائلة التي شلّت قدرة فصائل المعارضة واستنزفتها بشرياً ومادياً، وكبحت أدوار الأطراف الإقليمية، أنقذتا النظام، الذي كان على حافة الانهيار، وعزّزتا موقفه على الأرض، وجعلتا روسيا بمثابة صاحبة القرار الأول في الشأن السوري أمام العالم، بحيث إنها استطاعت من خلال ذلك فرض ذاتها كلاعب رئيس في المنطقة وكندٍّ للولايات المتحدة، على الأقل وفقاً لما تعتقده.
من كل ما تقدم، يبدو واضحاً أن روسيا بوتين تخوض في سورية معركة على مكانتها في العالم، أو أن هذا هو منظورها الاستراتيجي للانخراط في الصراع السوري، إذ من غير المعقول أن تغامر إلى هذا الحد في بلد صغير بموارده وبحجمه، من أجل الأسد ونظامه أو بدعوى الدفاع عن سيادة البلد والحؤول دون تقسيمه.
على ذلك، فثمة ملفات أخرى تقاتل من أجلها روسيا في سورية، ربما أهمها:
أولاً، محاولتها استعادة مكانتها كدولة عظمى في العالم، أو كندّ للولايات المتحدة الأميركية، وهذا هو هاجس بوتين المهووس بداء العظمة وميله لاستعراض القوة. مثلاً، في خطابه أمام مجلس الدوما في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، رفع بوتين شعار: «بناء روسيا القومية»، وقال: «قوتنا في داخلنا، في شعبنا وتقاليدنا وثقافتنا واقتصادنا، وفي أراضينا الشاسعة وثروتنا الطبيعية وقدرتنا الدفاعية، والأهم في وحدة شعبنا».
ثانياً، عقد مساومة مع النظام الدولي، في مسألة النزاع على أوكرانيا بعد خروجها من النفوذ الروسي، إذ يرى بوتين أن ما حصل هو محاولة أميركية لتحجيم روسيا في فنائها الخلفي، وهو أمر يصعب على شخص مثله هضمه أو تمريره.
ثالثاً، التعبير عن الغضب من تراجع أسعار النفط، والذي حمّل مسؤوليته للولايات المتحدة والقوى الحليفة لها، واعتبر أن هدفها منه هو الضغط على روسيا وإضعافها.
رابعاً، إيجاد الأوراق التي تسمح لروسيا بفرض الضغوط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى التراجع عن العقوبات التي فرضتها على روسيا، بخصوص حظر الصادرات التكنولوجية إليها.
خامساً، اعتبار المعركة ضد جماعات الإرهاب أو ضد القوى الإسلامية المتطرفة في المنطقة جزءاً من الدفاع عن الأمن القومي الروسي، ونوعاً من حرب وقائية للحؤول دون تمدّد هذه الجماعات إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية.
سادساً، الردّ على سعي الولايات المتحدة الى نشر شبكة «الدرع الصاروخي» في دول الجوار الروسي، وبعضها كان ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، وهذا أمر يؤرق القيادة الروسية ويثير مخاوفها.
سابعاً، تحجيم نفوذ تركيا وإيران في سورية، باعتبارها منطقة نفوذ روسيا، ولمنع تمتّع الدولتين الجارتين لها بقوة مضافة في زيادة نفوذهما في الشرق الأوسط إزاءه، لكن ذلك لا يمنع أن يكون هذا النفوذ تحت المظلة الروسية، وهو ما تمت ترجمته في مسار آستانة والتوافق على تقاسم النفوذ في مناطق منخفضة التوتر.
ثامناً، ترويج السلاح، إذ تعدّ روسيا ثاني مصدّر للسلاح في العالم، بعد الولايات المتحدة، حتى أن بوتين ذاته روّج بصفاقة للسلاح الروسي، باعتبار أنه أثبت فاعليته في سورية بالتجربة، أي في ميدان الصراع.
على أية حال نحن اليوم إزاء مرحلة ثالثة من التدخل الروسي، مع تأكيدنا أن الحيثيات السياسية لهذا التدخل لم تتغير، وأن التغير الجاري هو في أدوات التدخل ومستوياته وتداعياته المحلية، وعلى الأطراف الإقليميين الفاعلين. وعلى العموم، فإن روسيا تحاول المزج بين التدخل العسكري والتدخل السياسي، أو بين العمل من الجو والعمل من الأرض، وذلك باستثمار ما نسجته من شبكة علاقات في البيئات الشعبية الموالية للثورة، في المناطق المحاصرة، بإقامة نوع من هيئات محلية، يمكن أن تشكل مع بعض أطراف المعارضة (الموالية)، أو المعارضة للثورة، نوعاً من مؤتمر سوري عام، وذلك لإضافة طابع شعبي على عملها السياسي، وسدّ النقص الذي تعاني منه إزاء الأطراف الآخرين (الولايات المتحدة وإيران وتركيا)، وأيضاً لتهديد أو إضعاف مركز المعارضة ووفدها إلى جنيف. وبديهي أن هذا الوضع يضعنا أمام مسار تفاوضي ثالث، مع مساري جنيف وآستانة، من دون أن ننسى تصريحات الرئيس بوتين بخصوص استمرار الأمر الواقع، بحيث تتحول مناطق خفض التصعيد إلى مناطق نفوذ للقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع السوري مباشرة (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا)، في حال استعصى على مختلف الأطراف التوافق على حل مرضٍ للجميع.
على ذلك، فإن ما يجرى يستهدف أولاً، تعويم النظام، بغضّ النظر عن بقاء عائلة الأسد من عدم ذلك في سدّة السلطة، أو كيفية ترحيلها. وثانياً، تكريس تعددية الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بتحديد مستقبل سورية. وثالثاً، تحجيم نفوذ وأدوار الطرفين الإقليميين أي إيران وتركيا في سورية. رابعاً، انتهاج طريق للتغيير السياسي تسمح بتلبية حاجات مختلف الأطراف السورية، الإثنية والطائفية والمناطقية والسياسية، على أساس من اللامركزية.
مع ذلك، يفترض لفت الانتباه هنا إلى أن هذا «النجاح» لروسيا، الذي جعلها «مقبولة»، حتى لدى المعارضة، على رغم دورها كشريك للنظام، لم يكن ليحصل لولا: أولاً، وجود نوع من التفاهم أو القبول ولو الضمني من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهذا ما بيّنه التوافق على منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري، وعلى تحجيم نفوذ إيران، وإنهاء «الكوريدور» الإيراني من طهران إلى لبنان. ثانياً، لروسيا مصلحة أكيدة في إيجاد حل سياسي، ناجم عن مخاوفها من التورط أكثر في الصراع السوري وهو ما لا تريده. ثالثاً، إدراكها عدم قدرتها على الإجابة عن السؤال المتعلق باليوم التالي، أي بعد إنهاء الصراع، إذ إنها تدرك حاجتها الى شراكة الدول الكبرى لأنها لا تملك الإمكانات الاقتصادية اللازمة لإعمار البلد، كما لا تملك القدرة على وضع حد للتصدعات الحاصلة في المجتمع السوري نتيجة للصراع المديد والكارثي.