لم يكن أبرز المبشرين بعودة المجد الإمبراطوري لروسيا ليتصوّروا ولو للحظة عابرة أنّ كلّ هذا الحلم سيذهب هباءً منثوراً وبلحظة مفصلية ومحورية. فلقد تحطّمت هذه الصورة اليوم أمام مكاتب الصرافة في شوارع العاصمة الروسية موسكو وسائر المدن التي تشهد تدافعاً وطوابير طويلة من أجل شراء الأخضر «الدولار»، الذي بات عملة نادرة.
مع السقوط المريع للروبل وارتفاع نسبة الفوائد الى أرقام خيالية 16 في المئة، سقط معه العقد الاجتماعي بين السلطة والشعب الذي امتدّ لسنوات منذ أن تنكبت «البوتينية» مسؤولية السلطة في البلاد، والقائم على مبدأ بسيط اعتمدته السلطة السوفياتية من قبل: «أعطيكم البحبوحة والازدهار والرغد، في مقابل رفض أية محاولة لتغيير السلطة وحاكمها او مجرد التفكير بذلك، ولو عن طريق الانتخابات».
اليوم عادت الأمور الى نقطة الصفر، وأضحى الصمت الشعبي السائد بنتيجة هذا العقد اللاطوعي، والمفروض بوقائع قمع الحريات، وتضاؤل الحقوق الديموقراطية، وارتفاع المستوى المعيشي نتيجةً للفوائد المتأتية من ارتفاع سعر برميل النفط الخام والعوائد النفطية والغازية، كل هذه الوقائع والانجازات ذهبت أدراج الرياح.
وعلى رغم أنّ هذا العقد كان ضرورياً لتحقيق جملة من الأهداف السياسية للسلطة تحت شعارات: «الإصلاح المؤسساتي، محاربة الفساد والبيروقراطية، تجاوز تحلل وترهل السلطة، مواجهة خصخصة السلطات المحلية، تعزيز وظيفة الدولة الفيدارالية في المحافظات والاقاليم، تعزيز ديكتاتورية القانون في مواجهة الفوضى».
هذه الشعارات باتت اليوم دون معنى ودون فحوى او فائدة. فالشعارات حول تخفيض نسبة البطالة سقطت لتصل الى 24 في المئة، وسقط معها شعار تعزيز وتقوية واستقلالية صناعة السيارات المحلية، زيادة معاشات التعويض على العاطلين عن العمل أيضاً أصبح دون معنى، كذلك فإنّ خفض حجم التضخم بات حلماً، لتنهار مؤسسات ويُصرف عمالٌ وموظفون وأطباء ومهندسون من اعمالهم، وأصبح «كانون الأول» كانوناً أسود بالفعل على روسيا والروس.
أمام هذه الوقائع لم تستنفذ الماكينة الإعلامية السلطوية امكانياتها في محاولة اعادة مناخ الثقة بها بالاعتماد على وقائع تاريخية واستحضار محطات تعرّض فيها الشعب للمآسي، فضحّى من أجل الدولة والعظمة. وتعتمد هذه السياسة على احتياط كبير لدى الشعب الروسي على التحلّي بالصبر والصمود في مواجهة هكذا انعطافات، أما الطريقة المعتادة والكلاسيكية في استثارة المشاعر فتقوم على تسخير كل الجهود لشيطنة المعارضين المحليين وتخوينهم وجعلهم سبب البلاء والداء، واستنفار المشاعر القومية والوطنية لمواجهة الأعداء الخارجيين في اوروبا والغرب والاميركيين، الذي ينصبّ كل اهتمامهم بحسب الدعاية الرسمية على تقويض عظمة هذا الشعب، واعتبار الأشقاء مجرّد عبء على الإقتصاد الروسي.
من هنا بدأت هذه السلطات بالانقضاض على التزاماتها الاقتصادية تجاه أقرب جاراتها وحلفائها سواء في كازخستان او بيلاروسيا، الامر الذي أثار حنق رؤساء هذه الدول وعمدوا الى زيارة كييف العدو اللدود لموسكو، وإعلان مواقف من سلطات الدولتين الاقربين لموسكو عن مواقف تنتقد بشدة مغامرات موسكو ومحاولة جرّها كدول الى حال عداء مع الجارة الشقيقة أوكرانيا.
على رغم ذلك لا يبدو أنّ الكثيرين باتوا مقتنعين بصوابية هذه السياسة التي أفضت الى أنّ مدن القرم المضموم مثلاً باتت تعيش تقنيناً كهربائياً يزيد على الاثنتي عشرة ساعة وبات الدم الروسي يسيل في دونيتسك ولوغانسك تحت شعار قوة حفظ السلام.
روسيا… إلى أين؟
أمام هذه الصورة فقد تتجه الأمور نحو احتمالات ثلاثة:
الأول: العودة لشعار «اصبروا، فكل شيء سيعود الى ما كان عليه» بات لا يقنع أحداً البتّة، بحيث إنّ السلطة تعتمد منهجها السياسي عينه الذي اعتمدته في خلال أزمة 2008، بالعمل على الترويج لفكرة أنّ ما يحصل هو عرضي وموقت وهناك امكانية كبيرة على تجاوزه وبهدوء، مع إدراكها سلفاً أنه ومع الانخفاض المريع لأسعار النفط والغاز، فإنّ هذا يستدعي موقفاً سياسياً وتنازلات أقلها وقف التصعيد مع كييف والالتزام بالتعهدات وتطبيق اتفاقية مينسك للهدنة، والأهم الاقتناع بأنّ مسار كييف السياسي بات بعيداً ولا بد من التعامل مع الواقع كما هو. الأمر الذي يصعب تحقيقه بسبب صعوبة التقاط التحوّلات الفجائية في مواقف بوتين.
الاحتمال الثاني: التقوقع والانعزال تحت شعار الاكتفاء الذاتي والحفاظ على مستوى معيشي مقبول، ولكن لا اعتراضات على سياسات الرئيس، وبالتالي ما معناه أنّ ذلك يفترض الموافقة على التخلي عن الكثير من الحقوق في مقابل الأمن والامان وحماية الوطن ومواجهة العدوان الصلف الذي بدأ بحرب العقوبات القذرة.
فالسلطة ترفع اليوم شعاراً واحداً أوحد وهو أنّ الأعداء يحوطون بنا من كلّ حدب وصوب وكلهم يتكالبون على شعبنا وبلادنا، يحاولون إذلال روسيا وعلينا التصدي لهم ومواجهتهم بكل السبل، فالمعركة طويلة وللانتصار عليكم التخلي عن المكتسبات الاقتصادية والحقوقية، بمعنى محاربة أعداء الداخل بالمحاكم والعزل والنفي والابعاد والاخفاء الجسدي، والصبر على الواقع الاقتصادي والنتائج الاجتماعية له.
لكن ذلك يجب أن لا يسقط من الحسابات أنّ مواجهات كهذه تستدعي موازنة ضخمة وانفاقاً من الاحتياطات من أجل الدفاع والتسلح والحرب الباردة، المنطق الذي كان السبب الرئيس في اسقاط الإتحاد السوفياتي.
الاحتمال الثالث هو القول إنه وللاستمرار والعيش كما كانت الأمور قبل كانون الأول، ينبغي التخلّي موقتاً عن الأحلام الامبراطورية والمكتسبات الوطنية العظيمة ومنها اعادة النظر بموضوع ضمّ القرم ووقف المعارك في دونباس، وزيادة التفاعل مع الغرب، هذا التيار يقابله تيار واسع يدعو الى العودة للاشتراكية ومبادئها بمعناها السوفياتي واعتماد السياسات نفسها، وهذا يعني عودة الايديولوجيا والقيم المثالية للاشتراكية في مكان العيش والمستوى المعيشي اللائق والانفتاح على العالم، ما يعني العودة الى الفقر والتعاسة والاسوداد.
يعتقد مراقبون أنّ عودة الأمور الى نصابها تستدعي تغييرات سياسية وتنازلات كبرى، ولا تتطلب تغييراً اقتصادياً، وأهمها رفع اليد عن كييف، رفعها عن بشار الأسد، والتخلي عن الأحلام الامبراطورية التي تستدعي اقتصاداً جباراً يعتمد على طاقته الذاتية، ولم ينتعش بسبب استثمارات خارجية وتحرير الاقتصاد.