IMLebanon

عودة روسيا المدوّية

بعد غياب قسري مديد ومع انحسار نفوذ روسيا (والاتحاد السوفياتي) في الشرق الأوسط منذ نحو اربعة عقود، ها هي روسيا تعود بقوة واندفاع الى المنطقة عبر البوابة السورية. وهي تعود برايات متعددة: الدولة العظمى، الجمهورية القيصرية، الحليف الموثوق، والنظام الذي للكنيسة الارثوذكسية فيه مكانة ونفوذ في مرحلة ما بعد الشيوعية. وجامع الرايات رئيس قوي من نتاج حقبات روسيا المتعاقبة منذ نحو قرن الى اليوم. تعود روسيا متحّصنة بالدور التاريخي وبالمصالح الاقتصادية والسياسية، وتغيب الايديولوجيا التي لازمت السياسة السوفياتية طيلة سبعين عاماً.

موسكو دعمت النظام السوري منذ بدء الأزمة في 2011 وتطوَّر موقفها مع تفاقم النزاع وبسبب أحداث تزامنت معه، ابرزها الاشتباك مع الولايات المتحدة واوروبا في اوكرانيا والاتفاق النووي بين ايران والمجتمع الدولي. للتدخل العسكري الروسي في سوريا أبعاد أربعة. على المستوى الدولي، أولاً، فبعد خسارة الحرب الباردة وتراجع روسيا على المستويات كافة، استعادت موسكو قواها، عسكرياً وسياسياً، وكانت الفرصة متاحة في سوريا جرّاء التخبط الكبير في السياسة الأميركية. الازمة الاوكرانية أعادت إحياء بعض عناصر الحرب الباردة. وكان سبقها الصدام بين واشنطن وموسكو في جورجيا، ولاحقاً التوسع في تفسير قرار مجلس الأمن في ليبيا وتدخّل الحلف الاطلسي لإطاحة النظام الليبي، خلافاً لموقف روسيا.

البعد الثاني مرتبط بالساحة السورية، حيث يتواجد اكبر تجمّع للتنظيمات الاسلامية المتطرفة التي حاربتها موسكو منذ التسعينيات. الحرب الروسية في سوريا هي عملياً امتداد لجبهات القتال التي طالما تهيّأ الجيش الروسي لضربها، لا سيما وان الجماعات السلفية التي وصلت سوريا عبر تركيا من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً هي الاكثر تشدّداً وعنفاً. معركة روسيا مع الارهاب تُخاض على ارض حليفة بالتنسيق مع الجيش السوري، وهي اوضاع قتال مناسبة، خلافاً للاحتلال السوفياتي لافغانستان. محاولات البعض اللعب على الوتر المذهبي لا تؤثر في القرار الروسي، اذ إن القضاء على الارهاب التكفيري يحصل نيابة عن أوروبا، المهدّدة بأزمة اللاجئين، وعن اميركا المتردّدة.

ولروسيا، ثالثاً، أجندة إقليمية عبر الأزمة السورية. بين روسيا وايران علاقات وثيقة، لم تنقطع حتى في زمن احتدام المواجهة بين ايران والغرب، وتعزّزت مؤخراً مع اتفاق فيينا، كما أن علاقات روسيا مع مصر والعراق والاردن شهدت تحسناً في الآونة الاخيرة، بينما علاقات روسيا مع تركيا في تراجع متواصل بعدما اصبح الطيران الحربي الروسي على حدود تركيا. فبعد خسارة مواقعها في المنطقة، في المشرق العربي ومصر واليمن ودول أخرى، تعود روسيا في زمن تهالك النظام الإقليمي العربي والفراغ الذي أحدثته السياسة الاميركية المتعثرة. وتأتي عودة روسيا بالتحالف مع إيران التي بدأت تطبيع علاقاتها مع المجتمع الدولي، وبعدما أحرقت تركيا أوراقها مع الاطراف جميعها، في العالم العربي، لا سيما مصر، وأوروبا، وحتى إسرائيل.

اما في سوريا، فلروسيا مصالح معروفة، قديمة ومتجدّدة، وهي حليفة أنظمة الحكم السورية منذ الخمسينيات. موسكو تدعم النظام وهي أيضاً حليفة داعميه. والأهم، أنها الدولة الوحيدة القادرة على ايجاد تسوية للنزاع بما لها من نفوذ مع النظام وتواصل مع بعض أطراف المعارضة. البداية هذه المرة من فيينا حيث أطلقت روسيا مفاوضات تشكل خريطة طريق لمرحلة انتقالية بدأت جواً علّها تحطّ رحالها براً. أما واشنطن فهي غير قادرة أو غير راغبة في إيجاد حلول للنزاع ودول الاتحاد الأوروبي، المتضرّر الأكبر من حالة الفلتان في سوريا، منهمكة بأزماتها الداخلية. السعودية منشغلة باليمن، والعالم العربي ساحة حروب متنقلة، وأنقره تخوض معركة في الداخل على قياس طموحات الرئيس التركي وأخرى أكثر شراسة ضد الأكراد، اشدّ خصوم «داعش». وبين القيصر الحاكم والسلطان الطامح، تتوسّع مناطق الحظر البرّي على تركيا ويتعطّل الحظر الجوي في سوريا الذي طالما سعت إليه انقره.

سوريا اليوم أرض نزاع مفتوح ومعبر لكل طامح لجنّة، على الأرض أو في السماء. ويلات الحرب لا يسلم منها أحد. تبقى في النهاية محاولات إيجاد تسوية سياسية لنزاع مدوّل قبل فوات الأوان أو ربما بعده.