ليس أخطر من رجل الدولة، الذي ينسى وظيفته. فكيف إذا كانت الدولة المعنيّة تسعى الى إحياء أمجاد ماضٍ مضى؟ وتصرّ على كونها عظمى ومقتدرة وذات شأن ميزاني يمنع ديمومة «الأحادية» الأميركية؟ وكيف إذا كان الرجل المقصود هو وزير خارجية، أولى مهامه وأساسها تسويق سياسة بلاده في الخارج. والإطلالة على العالم، واحترامه، ومخاطبته بذكاء، وصدقية لا بدّ منهما؟!
سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي، كرر أكثر من مرّة، جملة واحدة من سطر واحد لكن بأعاجيب كثيرة! وهي أنّ «وجود إيران وحزب الله في سوريا هو بطلب من نظام بشّار الأسد».
الجملة تبدو عادية في سياق موقف موسكو المعروف. ولا تخرج عن الأدبيات السياسية التي تعتمدها راهناً برغم صدورها من مخزون «سوفياتي» سابق وفاشل! لكن إعادة التدقيق فيها تدلّ على نسق بدائي لا يليق بديبلوماسية دولة بحجم روسيا وادّعاءاتها، ولا بأصول التعامل بين الدول.
إيران «دولة» دعاها «رئيس دولة» أخرى الى حضنه، فلبّت النداء. عال! لكن منذ متى يَعتبر لافروف أنّ «حزب الله» دولة؟! أو كيان دستوري قائم في ذاته يُدعى بدوره لتلبية حاجيات «دولة» أخرى فيلبّي النداء؟! وفي أي كتاب ديبلوماسي قرأ وزير الخارجية الروسي مسوّغات موقفه؟ وفي أي مدرسة تعلّم أصول عمله؟!
يحكي عن إيران كدولة، لكنّه لا يرى أنّ لبنان مثلاً، هو دولة أيضاً. وإن «حزب الله» هو حزب في هذه الدولة! وإن دوره (لافروف) يُفترض أن لا يمسّ الأسس والمعايير المتّبعة في العلاقات الدولية. وإلا راح الجميع الى الغابة وشريعتها.. ثمّ كيف يسمح لنفسه بتجاهل سيادة وقوانين دولة لبنانية، لا تزال قائمة! وشرعية. ومعترف بها. وعندها علاقات ديبلوماسية مع معظم دول العالم بما فيها روسيا؟
هل يقبل ناظر الخارجية الروسية، أن تعلن كييف غداً، على سبيل المثال والمحاججة والكيد والمناقرة، أنها دعت «إمارة القوقاز الإسلامية» التي تقاتل السيطرة الروسية على بلاد الشيشان الى المجيء الى أوكرانيا. وأن هذه لبّت النداء. ووجودها دستوري شرعي طالما أنّها دُعيت رسمياً من قبل النظام ورأسه؟!
هذه مثل تلك. سوى أنّ في كييف نظاماً لا شك في شرعيته! وأهدأ من موسكو! ولم يصل الى الخلط الخطير بين الشرعي والشارعي. ولا بين منطق الدولة ومنطق الفوضى. ولم يستعن بالإنفصاليين أو الأصوليين أو المنتقمين أو الناقمين الشيشان، لأنّه مستهدف في عقر داره وأرضه من قبل الروس!
لكن الحاصل هو أنّ القيادة الروسية تتشبه بإيران وتنسى حالها. وتعتمد لغة مزدوجة وسياسة مزدوجة: تسعى الى كسب احترام العالم لها كدولة محورية كبيرة وأساسية و«نووية»، لكنها تتصرف من خارج قيم هذا العالم. وطقوسه. وقوانينه. وشرعياته. ودساتيره. وأعرافه. وأحكامه! تعطي لنفسها ما تنكره على غيرها. تتدخل بالنار والعنف خارج حدودها لكنّها تنقضّ على جمعية مدنية في موسكو بتهمة ارتباط تمويلها بالخارج! تلاحق مناوئيها والمنشقّين عنها في شوارع كييف ولندن وغيرهما لكنّها تأخذ على ملايين السوريين تمرّدهم على نظام في بلدهم قتَلَهم وشرّدهم وخرّب ديارهم!
.. ألا يعرف لافروف أنّ وجود «حزب الله» في سوريا هو أمر لم تقرّه «الدولة» اللبنانية، بل أقرّت عكسه من خلال «إعلان بعبدا» الشهير؟ وأنّ ذلك الوجود هو في أدنى الحالات، موضع خلاف رسمي وشعبي داخل لبنان؟ وإن معظم المسؤولين اللبنانيين تتراوح مواقفهم المعلنة بين رفض ذلك التدخل أو الصمت إزاءه، حتى لو كان البعض في موقع الحليف للحزب وأربابه في إيران؟ بل ألَم تطلعه دوائر الأمن والاستخبارات في روسيا على حقيقة أن وجود الحزب في سوريا، كان ولا يزال، موضع «نقاش» حار وحاد، حتى داخل صفوفه الحزبية وأُطره التنظيمية؟!
المشكلة الأكبر من إساءة التعبير، هي إساءة الحكم والأداء، وصولاً الى الافتراض، بأنّ في سوريا «نظاماً» لا يزال موجوداً وشرعياً! وأنّ غالبية السوريين ليست سوى عصابات تكفيرية إرهابية تستحق السحق والمعس والقصف بالغازات السامة «والسوخوي» والتهجير والتنكيل!
.. المشكلة الأعوص، هي أنّ ستالين لا يزال حياً، على ما يبدو!