لم يعُد هناك من مجال للشك في أنّ منطقة الشرق الأوسط دخلت عملياً مرحلةً جديدة وحاسمة من تاريخها، بمباركة دولية شاملة، إذ إنّنا أمام قرار كبير رُتّب خلال اللقاءات الكثيرة التي حصَلت أخيراً، حيث تولّت موسكو دوراً محورياً في هذا الإطار، وقد بدأت مؤشّرات التطبيق والتحضير الميداني لها تظهر وبنحوٍ صادم أحياناً.
لم تكن مسألة عاديّة أن يعلن رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم، وبما يُشبه البشارة، عن تطوّرات سياسية كبيرة في سوريا خلال الأشهر المقبلة، وذلك في الموقف الرسمي التركي الأوّل بعد القمّة الروسية – التركية المثيرة، في وقتٍ كان يتوقع كثيرون سياسة تركيّة داعمة أكثر للمعارضين السوريين بعد العملية الانقلابية الفاشلة.
وكان لافتاً للانتباه أيضاً استعادة «داعش» نشاطَها الإرهابي على الأراضي التركية بعد هدنة بدأت مع الانقلاب الفاشل وانتهت، على ما يبدو، إثر لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيّب أردوغان المثير للجدل. وكان المعارض السوري ميشال كيلو الأكثرَ وضوحاً حين أعلن: «ما يتناقله كثيرون أنّ من شروط المصالحة الروسية – التركية تراجُع أنقرة عن دعم المعارضة السوريّة».
لا شكّ في أنّ الملفات الخلافية بين روسيا وتركيا كثيرة، لا بل كثيرة جداً، وبعضُها صعب التحقيق ويتعلق بالمصالح الأمنية الحيوية لروسيا والتي لا يستطيع أردوغان تقديمَها لبوتين خشية انقلاب الداخل التركي عليه، لكن لا شكّ أيضاً في أنّ تفاهماً ما أنجِز وطاوَل مستقبل منطقة شمال سوريا ومستوى النفوذ التركي والاقتصاد والغاز.
إذ فيما باشرَت أنقرة بتنفيذ انعطافة مع مصر لمصلحة إنهاء العلاقات المتوتّرة مع نظام الرئيس عبد الفتّاح السيسي، تحدّثَ المسؤولون الأتراك عن مشاركة عسكرية تركيّة في حرب القضاء على «داعش»، وهو ما يَفتح بابَ الاجتهاد حول مشاركة عسكرية تركية تحت لواء قوّات دولية لاحقاً، إضافةً إلى التزام عدم إعطاء الأكراد استقلالاً ذاتياً، مع الإشارة إلى غياب الطلب بإزاحة الرئيس بشّار الأسد عن المواقف التركية.
وكانت موسكو قد وضَعت طهران مسبَقاً في أجواء التحضيرات لزيارة أردوغان لروسيا وأتبعَت ذلك بالإبلاغ إلى الحليف الإيراني كلَّ نتائجها، وهو ما استتبع زيارة ناجحة لوزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف الى تركيا.
لكنّ المؤشر الأهمّ كان مع شنِّ القاذفات الروسية غارات على سوريا انطلاقاً من قواعدها غرب إيران. فهي المرّة الأولى منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 التي تسمح فيها طهران لطائرات حربية أجنبية باستعمال قواعدها العسكرية، وهي أيضاً المرّة الأولى التي تنطلق فيها الطائرات الحربية الروسية من قواعد عسكرية خارج روسيا باستثناء سوريا.
ففي العام الماضي سَمحت إيران لروسيا باستخدام أجوائها لإطلاق صواريخ «كروز» الروسية انطلاقاً من بحر قزوين، وكان لذلك مؤشّراته العميقة حيث ترجِم لاحقاً في سوريا.
ولكن لا مقارنة لإطلاق الصواريخ مع استخدام الطائرات الروسية القواعدَ الجوّية الإيرانية. المعنى واضح ويتعلق بتكريس الشراكة والتفاهم على توزيع الأدوار مستقبلاً.
منذ نحو عام، وتحديداً إثر توقيع الاتفاق النووي، ناقشَت موسكو وواشنطن هذا الاحتمال العسكري. لم يُبدِ المسؤولون الأميركيون معارضةً له ربّما في إطار الدور الإيراني الجديد لِما بعد الاتفاق النووي. وقبَيل انطلاق الطائرات الروسية أبلغت القيادة العسكرية الروسية الى نظيرتها الاميركية بالخطوة، وهو ما يُفسّر حصول العملية بسلاسة في أجواءٍ تعجّ بالطائرات الحربية الاميركية وتُعتبر منطقة عمليات أميركية.
ما حصَل يُعتبر تطوّراً استراتيجياً كبيراً لموسكو ويوطّد قدَمها في الشرق الأوسط، خصوصاً أنّها وضَعت المنطقة الواقعة بين إيران والساحل السوري والبحر الاسرائيلي في إطار نفوذها الجوّي والعسكري ولو جزئياً.
وهو في الوقت نفسه تدشيناً وتكريساً لحدود النفوذ الايراني في المنطقة تحت المظلة والرعاية الروسية، وهو ما حاولَ الإشارة إليه عقب الغارة، الأمينُ العام لمجلس الامن القومي الايراني علي شمخاني بأنّ بلاده ستستمرّ في التعاون الاستشاري مع العراق وسوريا حتى القضاء على الحركات الإرهابية، والواضح أنّه يتحدّث هنا عن الدور والنفوذ العسكري والسياسي.
لكن كلّ هذه التطوّرات، على أهمّية معانيها ومؤشّراتها، لا تعني أنّ النتائج باتت وشيكة وأنّ الملفّ على قاب قوسين من الإقفال، ذلك أنّ مدّة زمنية قد تُقاس بالأشهر ستكون ضرورية، لكنّها حافلة بالمعارك العنيفة والدموية، لإنضاج التسويات السياسية ميدانياً.
فحلب على قاب قوسين أو أدنى من جحيم جديد، والتحضيرات تأخذ بُعداً آخر هذه المرّة، فوزير الدفاع الروسي قال بوضوح إنّ بلاده تقترب من التعاون مع الأميركيين في حلب. صحيح أنّ واشنطن نفَت ذلك لاحقاً، لكنّ نفيَها لِما تعلِنه موسكو بات أمراً عادياً، ليعود ويتبيّن لاحقاً صحّة ما تعلنه موسكو. ويأتي النفي الأميركي في إطار استيعاب ردّات الفعل الداخلية على الموقف الصادم.
وإلى حلب، توجّه ألفا مقاتل عراقي شيعي واستُقدم المئات من مقاتلي النخبة من «حزب الله». الطائرات الحربية تتولّى قصفَ مناطق وخطوط إمداد «داعش» في إدلب، فيما تعمل إيران على مساعدة الجيش السوري بالعديد والعتاد، في وقتٍ يتولّى الضبّاط الروس الإشراف على التحضيرات.
قد لا تكون معركة حلب هي الساحة الوحيدة التي ستشتعل في سوريا، فكلّ الترتيبات الميدانية يجب أن تكون قد أنجِزت قبل وصول هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، أي أنّ «العمل الوسخ» يجب أن ينجزَه الرئيس باراك اوباما قبل مغادرته السلطة، لفتحِ الطريق أمام الإدارة الجديدة في فرضِ التسويات الكبرى.
لم يعُد هذا الكلام من باب التكهّنات، فها هو المارد الصينيّ الذي يحاذر التورّط لعدم إثارة واشنطن في الشرق الأوسط، يباشر تقدّمَه، حيث زار مدير مكتب التعاون العسكري الدولي في اللجنة المركزية الصينية دمشق واجتمعَ بوزير الدفاع فهد جاسم الفريج عارضاً سُبل التعاون العسكري.
وهذه الخطوة ما كانت لتقدِم عليها بكين لولا يقينُها بوجود تسوية كبرى. أضِف إلى ذلك أنّ الصين باشرَت التزام رفعِ الأنقاض في سوريا وسحبَ قضبان الحديد، فيما باشرَت شركات صينية درسَ مشاريع الإعمار. والواضح أنّ الصين تستعدّ لملاقاة مشاريع الإدارة الأميركية الجديدة.
يبقى أنّ تسوية دولية كبرى بهذا الحجم ستلفَح لبنان بلا شكّ، مع مطلع السنة الجديدة.
فقريباً ستعاود واشنطن ضغوطها الماليّة والمصرفية على «حزب الله»، وخلال الشهر المقبل سيباشر العماد ميشال عون سياسةً هجومية تصعيدية عنوانُها قانون جديد للانتخابات النيابية وتطبيق الشراكة وروحية الميثاق.
هذان التصعيدان الأميركي والداخلي سيَصلان إلى الذروة مطلعَ السنة المقبلة، وهو الموعد الذي سيفرض حصول ضغط خارجي لتطبيق تسوية سياسية، وسيكون لروسيا دورٌ محوريّ في صَوغ الإخراج المطلوب. تسوية تشبه، ولو مِن بعيد وبأسلوبٍ مختلف، ما حصَل عام 1989 مع ولادة «إتّفاق الطائف».