بعد بضعة أيام على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب غالبية قواته من سوريا واقتراب انتهاء عملية الانسحاب المعلنة، يمكن القول إن روسيا لم تنفذ انسحاباً بالحجم الذي أوحته في الأيام الأولى. اقتصر الأمر على سحب جزئي للطائرات الحربية العاملة في سوريا، مع البقاء في جهوزية شبه كاملة لمواصلة أعمال القصف في سوريا على النحو الذي كان في السابق.
ماذا يعني هذا التطور؟ منطقياً ان روسيا نفذت انسحابا دعائيا أكثر منه انسحابا حقيقيا على الأرض، مما يفترض أحد أمرين: إما أن موسكو في حاجة إلى إرسال رسالة نحو الداخل مفادها ألّا تورط في الأزمة السورية إلى ما لانهاية، ولا سيما في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، وانهيار سعر صرف الروبل الروسي في مقابل الدولار الأميركي، وفي ظل الضغط الكبير الذي تعانيه مالية الحكومة المركزية، أو أن روسيا تبحث عن ثمن سياسي فوري لتدخلها عبر طاولة مفاوضات جنيف، بعدما تبين في الملموس انها وإن تكن قادرة على تعديل موازين القوى ميدانياً، فإنها عاجزة عن قلبها في شكل حاسم في كل مكان وحدها من دون التورط على الأرض بوحدات عسكرية. وفي السياق تدرك روسيا انها في حال تجاوزها تفاهمات معينة مع واشنطن تتناول حدود التدخل في سوريا، يمكن ان تجد نفسها وحيدة في مواجهة حظيت حتى اليوم بتواطؤ أميركي واضح المعالم.
انسحبت روسيا ولم تنسحب. هذا هو الوصف الأصح حتى الآن للتطور الميداني. فالجهد منصبّ حالياً على تفعيل مفاوضات جنيف مع “تدجين” مواقف بشار الأسد ومنعه من العزف منفردا من خارج الرعاية الروسية، وخصوصا ان بشار مدفوعا بموقف إيراني يميل الى نسف المفاوضات، أو أقله عرقلة الوصول الى نتائج تتعلق بالاتفاق على روزنامة المرحلة الانتقالية التي باتت بندا ثابتا في كل عملية تفاوضية حول سوريا. وليس سرا ان فلاديمير بوتين اختلف في المدة الأخيرة مع بشار الأسد على مسألتي الانتخابات التشريعية، وبت مصير رئاسة بشار للدولة. ومن هذا المنطلق يفترض ان الانسحاب الجزئي للقوات الروسية من سوريا يشكل رسالة إلى بشار مفادها ان النظام ليس مساويا لروسيا عندما يتعلق الأمر ببت مصير سوريا مع الأميركيين. ثمة نَفَس “تأديبي” لبشار في خطوة بوتين، من دون أن يصل الأمر الى تغيير كبير في الموقف. فروسيا تدرك أولا ان سوريا تغيرت، ولذلك رمت بورقة “الفيدرالية ” في سوق المداولات، وتهتم أكثر من بشار نفسه بمصير الجيش النظامي، والبنية العسكرية التي سترث تركيبة نظام آل الأسد لأن سوريا لن تُحكم في المستقبل كما حكمها كل من حافظ الأسد، وابنه. انتهى ذلك الزمن. وأي حل دائم في سوريا لا يمكن روسيا صنعه من دون الأميركيين. وهم في حاجة إلى اتفاق قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما خوفا من “مجهول” أميركي قد ينتقل الى سياسة تدخلية أقوى في سوريا.
هكذا يمكن استخلاص ان موسكو التي لم تنسحب إلا جزئيا من سوريا تستعجل مفاوضات مثمرة في جنيف، نظرا الى محاذير التورط الشامل، وقرب رحيل أوباما.