لم يخطر في بال السفير الروسي الراحل كارلوف أن معرض الرسوم والصور الذي سيفتتحه في أنقرة بعنوان «روسيا بعيون أتراك»، سيقوده إلى مواجهة أخيرة مع «نظرة» تركية مختلفة لا ترى في روسيا مشاهد طبيعية جميلة ورومانسية مثل التي يقدمها المعرض، بل نظاماً قاتلاً يدمر بقاذفاته وصواريخه وقواته الخاصة مدينة حلب وأجزاء أخرى من سورية.
لكن قسماً كبيراً من الكلام الذي تفوه به القاتل أمام الكاميرات بعد اغتياله السفير لم يكن موجهاً إلى روسيا، بل إلى أردوغان نفسه. فعندما قال: «لا تنسوا سورية… لا تنسوا حلب» لم يكن يشير إلى موسكو المتورطة في سورية وفي حلب تحديداً، بل كان يقصد أردوغان الذي تقاعس عن نجدة المدينة التي استباحها قتلة «الحرس الثوري» و «حزب الله» والميليشيات الأخرى الموالية لإيران.
يعرف الأتراك والسوريون والعالم أن الرئيس التركي تراجع عن كل «الخطوط الحمر» التي كان رسمها افتراضياً حول حلب، وأن خطبه الشهيرة المليئة بعبارات مثل «لن نقبل» و «لن نسمح»، طارت في الهواء، وامّحى الحبر الذي كتبت به قبل أن يجف. ويعرف هؤلاء أيضاً أن أردوغان سحب نحو خمسة آلاف مقاتل يتبعون له تمويلاً وتسليحاً من المدينة، ونقلهم للمشاركة في معركة استعادة مدينة الباب السورية من «داعش»، وهي المعركة التي لم تحصل، وربما لن تحصل. وشهادات المدنيين الخارجين تؤكد أن بعض أحياء المدينة سلمت تسليماً إلى الجيش النظامي وميليشياته من دون قتال، وأن أنقرة لعبت دوراً في تسهيل ذلك.
صحيح أن كل ذلك لا يبرر الاغتيال ولا يدافع عنه، لكن ما فعله الشرطي مولود ربما كان يعكس مشاعر الكثيرين من الأتراك الذين أتخمتهم قيادتهم بوعود الدفاع عن سورية ومناصرة شعبها في وجه حاكم دمشق الديكتاتور، ثم رأوها تتراجع شيئاً فشيئاً عنها لتنتقل إلى القبول بنظام بشار الأسد وربما الدفاع عنه. أي أن أردوغان هو وحده المسؤول عن تأجيج مشاعر الأتراك وحضهم على الانخراط في الدفاع عن انتفاضة السوريين، قبل أن يخيب آمالهم ويتركهم عرضة للتخبط بين مصدّق ومشكّك، فيما هدفه الوحيد كان منع الأكراد السوريين من وصل جزءي الشريط الحدودي الذي «حرّروه» في شمال سورية، والحصول على أي نوع من «الحكم الذاتي» يهدد بانتقال عدواه إلى الداخل التركي.
وفي المقابل، نال أردوغان «جائزة ترضية» روسية على مواقفه المستجدة، فحصرت موسكو به اتفاق وقف إطلاق النار وخروج المسلحين والمدنيين من حلب، بعدما أنكرت على الأميركيين والأوروبيين أي دور.
ومع أن تركيا والمنطقة والعالم ضجوا بالنظريات المتضاربة عن الاغتيال ودوافعه وتفاصيله، إلا أن الحدث الفعلي لم يكن مقتل السفير، على أهميته، بل الاجتماع الذي عقد في اليوم التالي في موسكو وضم وزراء دفاع وخارجية روسيا وتركيا وإيران، وانتهى باتفاق الدول الثلاث على أن الأولوية ليست لتغيير نظام الأسد، بل لمحاربة الإرهاب. وهذا في مفهوم موسكو وطهران لا يعني سوى محاربة الثوار السوريين الحقيقيين الذين عمل العالم كله لمحو الفوارق بينهم وبين إرهابيي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة».
استغل أردوغان حادث الاغتيال لتأكيد خياراته الجديدة في سورية وتقاربه مع روسيا وإيران، بل عملياً تبني وجهة نظرهما إزاء مستقبل سورية واحتمالات التسوية فيها. واستغل الحادث أيضاً لإلقاء التهمة على «شماعة غولن» بحيث يمكنه مستقبلاً تبرير أي حملات «تطهير» جديدة يقوم بها في الأجهزة الأمنية وسواها، بعدما «ثبت» أنها لا تزال مخترقة، ولجبه الانتقادات الأوروبية لتدهور وضع حقوق الإنسان في تركيا.