يأتي ترؤس موسكو مجلسَ الأمن الدولي خلال الشهر الجاري في ظلّ أجواءٍ «غير مُشجّعة»، بعد تعليق المفاوضات الأميركية-الروسية في شأن إحياء الهدنة في سوريا. وعلى رغم ذلك، لن تُوصد موسكو أبوابها أمام الجهود السياسية السلمية، حسبما يؤكّد السفير الروسي في لبنان ألكسندر زاسبكين، لكنّها في الوقت عينه ستكون «جاهزة لكلّ الإحتمالات»، ولا سيما بعد تلويح واشنطن بأنّها في صدد دراسة الخيارات «الدبلوماسية والعسكرية والاستخبارية والاقتصادية» المُتاحة للتعامل مع الأزمة السورية. لبنانياً، لا تزال روسيا الإتحادية على موقفها المبدئي والواضح بتأييد إيجاد حلٍّ للشغور الرئاسي عبر «الوفاق» بين اللبنانيين، وفق زاسبكين الذي يصف لقاءَ الرئيس سعد الحريري بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بـ«الودّي»، معتبراً أنّ تركيز الأخير على الأزمة السورية هو أمرٌ «طبيعي».
يعزو زاسبكين اهتمام لافروف خلال لقائه الحريري في موسكو ببحث الوضع السوري، كون ذلك يشكّل ذروة الاهتمام الروسي. ويقول السفير الروسي في مقابلة مع «الجمهورية»: «عندما يستقبل السيد لافروف شخصاً من الشرق الأوسط، من الطبيعي أن يتركّز النقاش على الأزمة السورية».
ويذكّر بأنّ لافروف تطرّق إلى تداعيات الأزمة السورية على لبنان سواءٌ لجهة الخطر الإرهابي أو نتائج النزوح السوري، رافضاً اعتبارَ اللقاء بين الرجلين بارداً.
ويقول: «كان مناخاً ودّياً، وموقف روسيا المبدئي والواضح تأييد إيجاد حلول عبر الوفاق. ونحن جاهزون لمساعدة اللبنانيين في ملف الرئاسة، ولكن من دون التدخل في الشؤون الداخلية».
ويعتبر زاسبكين أنّ الحراكَ الذي يقوم به الحريري هو «لكسر الجمود ومحاولة إيجاد مخرج من المأزق». ويقول: «لا ينفع أن نتحدّث عن تفاؤل أو تشاؤم بجهود الحريري، علينا بذل الجهود ضمن صلاحياتنا، والمطلوب توافق بين اللبنانيين أنفسهم، وأيّ شيء مقبول للبنانيين نقبله».
ويتابع: «إنّ مجموعة الدعم الدولية للبنان تركّز على دعم الأمن والاستقرار في هذا البلد.
ونحن نفهم جيداً أنّ الأمن والاستقرار تؤثر فيهما عوامل عدة، بما في ذلك قدرة مؤسسات الدولة التي نريدها فاعلة، وأن لا يكون هناك فراغ»، معتبراً أنّ الطلب إلى روسيا التوسّط مع إيران لحلحلة ملف الرئاسة افتراض لا أساس له.
سوريا… إلى أين؟
سورياً، يفضّل زاسبكين عدم الخوض في ما ينوي الجانب الأميركي القيام به من إجراءات عسكرية اقتصادية أو دبلوماسية بعد تعليق المفاوضات في شأن سوريا بين موسكو وواشنطن.
ويقول: «هذه ليست مشكلتنا، قرار تعليق المفاوضات في شأن سوريا أمرٌ مؤسف، الحلّ يجب أن يكون سياسياً ونحن نعمل لتحقيق هذا الهدف. أيُّ تراجع في هذا المسار مضرٌّ للجميع. ولكن لا نستطيع الالتزامَ بالاتفاق من طرف واحد، في وقت يقوم الطرف الثاني الممثل بالمعارضة السورية بمساعدة الأميركيين في قصف الجيش السوري»، مُتّهماً الجانب الأميركي بطرح شروطٍ تعجيزية ومتشدّدة لإعادة إطلاق مسيرة المفاوضات.
ويقول: «الأميركيون خلقوا طريقاً مسدوداً. هذا يقلقنا. نحن نريد في كلّ محطة استئناف الجهود الدبلوماسية التي نعتبرها الطريق الصحيح لإيجاد الحلّ، ولكن من جانبهم المطروح شيء آخر».
أنظمة «اس- 300»
وعمّا إذا كان نشرُ روسيا أنظمة دفاع جوّي من نوع «اس-300» في طرطوس في شمال غرب سوريا، استباقاً لمنطقة حظر جوي أميركي في سوريا، يوضح زاسبكين: «عندما كان هناك قرار اميركي بتعليق الاتفاق، وأنّهم في صدد طرح خيارات عدة، وجدنا أنّه يجب أن نكون جاهزين لكلّ الاحتمالات، الوضع قد يتدهور، ونحن جاهزون لكلّ شيء».
ولا ينكر زاسبكين أنّ الخلاف بين «البنتاغون» والخارجية الأميركية ضمن جملة أسباب فشل اتفاق الهدنة.
ويشير إلى أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما كان يريد تحقيق هدفين، تحقيق إنجاز بالتسوية، وتمهيد طريق هيلاري كلينتون إلى الرئاسة، ولكنّ هناك رأياً آخر بأنّه لا يجوز إعطاء الانطباع بأنّ الروسيين فعلوا شيئاً جيداً، لذلك تغلّب موقف المتشددين.
ويقول: «هناك إزدواجية في الموقف الأميركي. كان الاتفاق جدّياً ومتوازناً ومقبولاً للجميع، وعلى أساسه كان يمكن إحراز تقدّم ملموس وإيجاد حلول للقضايا الميدانية والإنسانية، تمّ إفشاله من المعارضة السورية وبتأييد أميركي»، معتبراً أنّ «قصفَ التحالف للجيش السوري في دير الزور واستهداف القافلة الإنسانية في حلب استفزازات واضحة لخدمة الإرهابيين الذين لا يريدون الإتفاق».
ويلفت إلى «أننا قبلنا بمبدأ معارضة معتدلة والتمييز بين الإرهابيين، ولا سيما «النصرة»، واعتبرنا الفصائل المتعاوِنة مع الأميركيين معتدلة، لكنّهم تراجعوا عن ذلك، وأصبحت المعارضة المسلّحة شيئاً واحداً».
ويرى زاسبكين أنّه بات واضحاً مَن يعرقل وقف سفك الدماء ووقف الحرب. ويعتبر أنّ هذه الهستيريا ومحاولات اتهام روسيا والنظام السوري بقصف المدنيين جزءٌ من الحرب الإعلامية، مشدِّداً على أنّه «ليس مقبولاً أن يسيروا في هذا الطريق، وتزوير الحقائق هو نتيجة المشارَكة العسكرية الروسية في سوريا، ولا بدّ أن نتحمّل أعباء ذلك».
تغييرٌ تكتيكي
ويقول: «نحن نتحدث مع الأميركيين، هم لا يستخدمون كلّ وسائل الضغط على المعارضة المسلّحة. الاستراتيجية الأميركية لم تتغيّر، هم يقومون بخطواتٍ تكتيكية فقط. تراجعوا عن المطالبة بتنحّي الرئيس بشار الأسد لفترة قصيرة للسير الى الأمام بخريطة طريق، ولكنّ استراتيجيّتهم لا تزال إسقاط النظام، هذا هو الجوهر.
إمداداتٌ وأسلحة ومقاتلون يعبرون الحدود السورية يومياً، هذا واضح للجميع ويجري منذ سنوات. اليوم يسعون الى التخويف بأنّهم قد يرفعون مستوى التسليح، وهذا من شأنه أن يزيد الوضعَ سوءاً».
ويذكّر أنّه خلال السنوات الأخيرة هناك نهجٌ استراتيجي غير بنّاء تجاه روسيا، ونحن نعيش في ظلّ هذه الظروف ونتّخذ الإجراءات المناسبة.
ويقول: «الأميركيون يرسلون إشاراتٍ الى روسيا بأنّها إذا تصرّفت على هواهم سيرفعون العقوبات، مشكلة روسيا ليست العقوبات. نحن نريد المساواة، والأميركيون يمدون يد التعاون فقط في المجالات المفيدة لهم».
وينتقد زاسبكين حديثَ واشنطن عن نفاد صبرها من موسكو في سوريا. ويوضح: «الأميركيون يحوّلون المذنب الى ضحيّة. ففي الأيام الأولى لتطبيق الاتفاق، بدأ الجانب السوري بسحب قواته من طريق الكاستيلو، لكنّ المعارضة لم تتحرّك.
وسبق وقاموا بتوسيع حلف الأطلسي الى حدود روسيا ومن ثمّ قالوا إنّ موسكو اقتربت من الناتو، وفي وقت كانت السلطات الأوكرانية تقصف المناطق الشرقية، هم تحدّثوا عن انفصاليين يقصفون الجيش الأوكراني وأنفسهم في الوقت عينه، هل هذا معقول؟»
حلب
أمّا في حلب الشرقية، فيقول زاسبكين: «المشكلة أنهم يعلنون شيئاً ويتصرّفون شيئاً آخر. قدّمنا في حلب الشرقية اقتراحاتٍ بأن ينسحب المقاتلون من المنطقة، كان في إمكان الأميركيين أن يضغطوا على المعارضة لينسحبوا، لإنقاذ الأبرياء، لندع المسلّحين يغادورن، هم اعترفوا بأنّ «النصرة» فصيلٌ إرهابي، ووعدوا بفصلها عن الفصائل المتعاونة، لكنّهم لم يفعلوا شيئاً، ويماطلون ليبقى الجرحُ مفتوحاً».
وعن اتهام السفير الأميركي السابق إلى سوريا روبرت فورد بأنّ ما تقوم به القوات الروسية في حلب شبيه بما جرى في غروزني، يردّ زاسبكين: «في الشيشان كان الأميركيون يؤيّدون الإرهابيين ويسمّونهم ثواراً مثلما يحدث الآن في سوريا، كان الأمر مرتبطاً بوحدة روسيا مثلما هو مرتبط اليوم بوحدة سوريا. يريدون تفكيك الدول، الموقف الغربي نفسه في الشيشان وسوريا. نحن في سوريا نكافح الإرهابيين، نحن حاربنا الإرهاب وكنا ضحاياه عندما كان الأميركيون يؤيّدون الشيشان».
وحتى الساعة لا تزال الخطة «ب» التي تحدّث عنها وزير الخارجية الأميركي جون كيري غير واضحة في نظر زاسبكين، فهي قد تتضمّن استخدام القوة أو زيادة التسليح. ويقول: «ما تؤكّد عليه روسيا أنّ مستقبل سوريا هو دولة موحّدة، أمّا الصيغة للعلاقات بين مكوّنات المجتمع فأمرٌ يقرّره الشعب السوري بنفسه».
ويجدّد زاسبكين التأكيد أنّ روسيا لديها أجندة بنّاءة لتحقيق السلام في سوريا، والهدف من العملية العسكرية الروسية في سوريا التي دخلت عامها الأول، إنقاذ البلد ومنع الإرهابيين من الاستيلاء على السلطة.
ويضيف: «لقد تمكنّا من إيقاف العمليات الإرهابية في عدد من المحافظات السورية وتحقيق المصالحات الميدانية، ولكنّ القضاء على الإرهاب يجب أن يشمل كلّ الأراضي السورية، وهي مهمّة ستطول. تحقيقها سهل… فقط إذا كان هناك توافقٌ بين الأطراف الخارجية، لذلك دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى تشكيل جبهة عالمية لمكافحة الإرهاب».
ويُحذّر زاسبكين من أنّه عندما تتوقف الجهود السياسية والدبلوماسية، فسيكون البديل «تصعيداً عسكريّاً في الدرجة الأولى، وبالتالي الوضع في سوريا يمكن أن يتدهور أكثر».
لكنّ روسيا «ستقف ضدّ ذلك، وستواصل التعاون مع النظام السوري لمكافحة الإرهاب وتعزيز الجهود لتحسين الأوضاع الإنسانية وتشجيع الانضمام الى المصالحات الميدانية، ولا تغلق الأبواب أمام الجهود السياسية السلمية».
وفي وقت يُفترض أن تكون الدبلوماسية الروسية في أوجّها بحكم ترؤس موسكو اعتباراً من مطلع تشرين الأول رئاسةَ مجلس الأمن الدولي، تبقى المبادرة في طرح القضايا، وتحقيق الإنجازات «رهنَ الإتفاق مع الأطراف الأخرى في المجلس، ولكن تبدو المعطيات والأجواء الحالية غيرَ مُشجّعة»، يختم زاسبكين.