أشاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب علناً بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهاجم صفقة صاغها الكونغرس تهدف إلى معاقبة روسيا بالمزيد من العقوبات. حتى إنه وافق، خلال اجتماع مع بوتين هذا الصيف، على إجراء حوار بين الولايات المتحدة وروسيا حول القضايا السيبرانية، على الرغم من أن أربعة من أجهزة الاستخبارات الأميركية قد أجرت تقييماً للاستخبارات العسكرية الروسية التي اخترقت النظم الحاسوبية لكبار أعضاء الحزب الديمقراطي الأميركي، إلى جانب نظم التصويت الانتخابي في البلاد.
لكن، وعلى الرغم من السيد الرئيس، يبدو أن الحكومة الأميركية تتخذ مساراً صارماً حيال روسيا. وآخر الأمثلة على ذلك ظهر يوم الخميس الماضي عندما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن إغلاق المباني الدبلوماسية الروسية في مدن نيويورك وسان فرانسيسكو وواشنطن، رداً على قرار الكرملين الدرامي الشهر الماضي بطرد المئات من الموظفين الدبلوماسيين الأميركيين العاملين في روسيا.
بيد أن النقاش الداخلي حول السياسة الخارجية حيال روسيا هو أكثر تعقيداً بأكثر مما يخبرني به المسؤولون الأميركيون، وأن وكيل وزارة الخارجية توم شانون، وهو من المسؤولين المخضرمين المعينين في عهد إدارة الرئيس أوباما السابقة، واصل بذل الجهود حتى اللحظة الأخيرة للحيلولة دون انتقام الروس من العقوبات الجديدة، والتي جاءت كردة فعل على التدخلات الروسية في الانتخابات الأميركية، والتي وقعها الرئيس الأميركي على مضض.
ومع نهاية يوليو (تموز)، تقدم السيد شانون بـ«ورقة غير رسمية»، أي مقترح لا يحمل أي إشارات دبلوماسية رسمية، إلى نظيره الروسي عارضا فيه عودة مجمعين دبلوماسيين كان الرئيس باراك أوباما قد أغلقهما في ديسمبر (كانون الأول).
وكان التوقيت مهما للغاية. بعد وقت قصير من العرض، أعلنت روسيا عن طرد الدبلوماسيين الأميركيين، والذي اعتبر وقتها وعلى نطاق كبير أنه تدهور واضح في العلاقات المتوترة بالفعل بين واشنطن وموسكو. وكان التوقيت مهماً أيضاً؛ نظراً لأن إغلاق الرئيس الأسبق أوباما للمجمعات الدبلوماسية في نهاية رئاسته للبلاد، كان يشكل عبئاً على إدارة الرئيس ترمب منذ توليه مهام منصبه. وكان مستشاره الأول للأمن القومي، الجنرال مايكل فلين، قد غادر منصبه بسبب تفاصيل مكالماته الهاتفية المراقبة مع السفير الروسي، والتي وجدت طريقها إلى الصحف، والتي زعمت أن السيد فلين كان على استعداد لعكس قرارات فرض العقوبات التي أقرتها إدارة الرئيس أوباما. ومن الجدير بالذكر أن تلك المحادثات الهاتفية قد أجريت في يوم إعلان أوباما نفسه.
ولقد بدأت مفاوضات وزارة الخارجية الأميركية مع الجانب الروسي بشأن إعادة المجمعات الدبلوماسية بعد تولي الرئيس ترمب لمهام منصبه في فبراير (شباط) الماضي. كما ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في مايو (أيار) الماضي، وكانت المحادثات تهدف إلى التخفيف من حدة التوترات مع موسكو في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي البداية، كانت إعادة المجمعات الدبلوماسية مرتبطة بالسماح للولايات المتحدة بتوسيع قنصليها في مدينة سان بطرسبرغ الروسية.
وفي المعتاد أن تمّر مثل هذه الأمور عبر عملية مشتركة بين الوكالات الحكومية، حيث تقوم بقية وكالات الحكومة بموازنة المقترح، ثم يتخذ الرئيس قراراه الأخير بشأنه. غير أن عرض السيد شانون في اللحظة الأخيرة في يوليو كان متماسكا وبقوة. ولقد أخبرني أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية أن الوزير ريكس تيلرسون قد أحاط الرئيس ترمب علما بتلك الجهود.
لم يكن من أحد آخر في الحكومة على علم بجهود السيد شانون. ولقد أخبرني مسؤولان أميركيان يعملان عن كثب في الملف الروسي أن عملاء اصطياد الجواسيس في مكتب التحقيقات الفيدرالية كانوا على غضب شديد عندما علموا بعرض السيد شانون غير الرسمي على الجانب الروسي إعادة المجمعات الدبلوماسية المغلقة منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ولم تكن فيونا هيل، مديرة الشؤون الأوروبية والروسية في مجلس الأمن القومي الأميركي، على دراية بالعرض كذلك، وفقا لرواية هذين المسؤولين.
ولم يكن عرض السيد شانون غير الرسمي منحة مجانية محضة؛ بل اشتمل على شروط قاسية تتعلق بكيفية استخدام الجانب الروسي لهذه المجمعات، مع تحديد أنها يمكن استخدامها في الأنشطة الترفيهية فحسب. كما يمنح العرض كذلك السلطات الأميركية الحق في الدخول إلى المجمعات إذا ما كان هناك اشتباه في ممارسة أنشطة إجرامية أو تجسسية مثيرة للشكوك.
ويبدو أن تلك الشروط لم تكن مقبولة على نحو تام لدى موسكو. إذ واصلت موسكو تنفيذ قرارات الطرد الدبلوماسية على أي حال. وفي هذه المرة عندما نظرت إدارة ترمب في ردها على الجانب الروسي، تم ذلك من خلال عملية حكومية صارمة للغاية، وفقا إلى المسؤولين الأميركيين الذي شاركوا فيها. ولقد ضغطت المباحث الفيدرالية على وجه الخصوص بشأن إغلاق القنصلية الروسية في سان فرانسيسكو بسبب أنها كانت مركزا لأنشطة التجسس الروسية في الساحل الغربي للولايات المتحدة.
ولا يزال الأمر على منواله بالنسبة لحكومة البلدين؛ إذ إن الأيام الأولى لإدارة الرئيس ترمب الجديدة في البيت الأبيض قاربت على الانتهاء، مما يوعز بمسار سياسي أكثر تأنياً وعمقاً حيال روسيا نتيجة لذلك.
أما أهداف روسيا، والتي دائماً ما ينادي قادتها إلى التخفيف من حدة التوترات، صارت قيد النظر والاعتبار كذلك. وعلى الرغم من العرض غير الرسمي بإعادة المجمعات الدبلوماسية، تخير الجانب الروسي مسار التصعيد على مسار التهدئة. وتخيرت إدارة ترمب، في خاتمة المطاف، مسار الانتقام.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»