تنصب الجهود الإيرانية ـ الروسية على تفادي خسارة العراق. وهذا ما يفسّر الى حد كبير ذلك الخروج الذي لا تفسير منطقيا له لرئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي عن حذره في التعاطي مع تركيا من جهة ووضع روسيا نفسها في موقع الوصيّ على العراق من جهة اخرى. صارت موسكو حريصة على سيادة العراق اكثر من حكومة العبادي المقيمة في بغداد!
يأتي ذلك في وقت تركّز ايران على تغيير النظام في لبنان وجعلها من هذا الهدف احدى اولوياتها. لذلك تأجّل مرّة اخرى انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، بعدما بدا انّ هناك ما يدعو الى التفاؤل بمخرج ما، حتّى لو كان هذا المخرج يعني انتخاب «صديق» بشّار الأسد، اي سليمان طوني فرنجيه رئيسا.
على الرغم من ان انتخاب فرنجيه رئيسا لا يزال على نار قويّة. عاد الهمّ الأول لطهران العمل على تغيير النظام في البلد من اجل ترجمة القوّة التي يمتلكها «حزب الله» عن طريق سلاحه غير الشرعي الى واقع قانوني. هذا الواقع يعني، من الناحية العملية، تبييض لسلاح الحزب، على طريقة تبييض الأموال. عمليا، تريد ايران، في المدى المنظور، فرض المثالثة الشيعية ـ السنّية ـ المسيحية بديلا من المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في لبنان. كلّ كلام عن تغيير النظام تحت سقف الطائف لا معنى له ولا هدف منه سوى تغطية وضع اليد الإيرانية على لبنان بشكل دستوري…
هدف ايران الحؤول دون انقاذ الجمهورية اللبنانية، جمهورية الطائف تحديدا.
تريد ايران امتلاك الثلث المعطّل في البلد. لا شيء يمكن ان يؤدي الى ذلك سوى الفراغ الرئاسي الذي يتحمّل الزعماء المسيحيون مسؤولية كبيرة في استمراره، خصوصا بعدما تحوّل ميشال عون مجرّد اداة تخدم سياسة ايران ولا شيء آخر غير ذلك.
هناك ضغوط روسية وايرانية تمارس في كلّ الإتجاهات، خصوصا في العراق ولبنان. هذا عائد الى نجاح المملكة العربية السعودية، بغض النظر عن كلّ ما قيل ويقال عمّا آل اليه الوضع السوري نتيجة التدخل العسكري الروسي، في جمع المعارضة السورية. كان كثيرون يعتقدون ان لا احد يستطيع جمع قادة هذه المعارضة، او على الأصحّ جمع اشخاص يعتبر كلّ منهم نفسه زعيما استثنائيا قادرا على انقاذ سوريا وانتزاعها من فمّ الأسد. هذا الكلام لا ينطبق على جميع الذين التقوا في الرياض، لكنّه ينطبق على عدد لا بأس به منهم.
ما شهدته الرياض، في موازاة انعقاد قمة مجلس التعاون الخليجي، يدلّ على انّ ليس في امكان اي طرف تجاهل الشعب السوري. هذا الشعب موجود، وهو من دون ادنى شكّ افضل من معظم زعماء المعارضة. هذا الشعب الباحث عن كرامته والذي يقاوم النظام الأقلّوي منذ ما يزيد على اربع سنوات ونصف سنة، افشل كلّ المحاولات الإيرانية والروسية لإعادة الحياة الى نظام بشّار الأسد الذي صار في مزبلة التاريخ.
بات واضحا ان سقوط النظام السوري بالطريقة التي سقط بها، وراء عملية تطويق العبادي من كلّ الجهات وتحويله الى نوري المالكي آخر. فجأة صار رئيس الوزراء العراقي يوجّه انذارات الى تركيا، علما ان وجودها العسكري في العراق قديم ومرتبط الى حدّ كبير بالحدّ من تمدّد «داعش» بموجب اتفاقات معقودة مع الإكراد.
ليس سرّا ان هناك علاقة بين الحكومة التركية و»داعش»، لكن ليس سرّا ايضا وجود دور للنظام الإيراني والسوري في مجال التواطؤ مع «داعش» وتمكينه من التمدّد في كلّ الإتجاهات وصولا الى الموصل. هناك بكلّ بساطة استخدام لـ»داعش» من جانب تركيا وكلّ من النظام السوري والإيراني، فضلا عن روسيا ايضا. لم تجد موسكو غير «داعش» لتبرير ارسالها طائرات وقوات الى الساحل السوري بعدما اكتشفت ان النظام السوري سقط وانّ عليها «اسعاف» بشّار، على حد تعبير احد المسؤولين الروس في مجلس خاص.
تغاضت روسيا وايران عن خلافاتهما في شأن سوريا، اقلّه موقتا، وانتقل تركيزهما على العراق وعلى العدو المشترك الذي اسمه تركيا. عاجلا ام آجلا، سيكتشف الطرفان انّ افلاسهما في سوريا لا يمكن تعويضه لا في العراق ولا في لبنان… ولا حتّى عن طريق شنّ حملات على تركيا، على الرغم من معاناتها من السياسة ذات الأفق الضيق التي يتبعها رجب طيب اردوغان. يعود ضيق افق هذه السياسة الى ان الرئيس التركي اسير فكر الإخوان المسلمين الذي هو في اساس كلّ ما له علاقة بالتطرّف في المنطقة كلّها.
هل ينجح الروسي والايراني في العراق تعويضا عن فشلهما في سوريا؟ هل ينجح الإيراني في لبنان الذي يعتبره بدلا عن ضائع؟ الضائع هنا هو سوريا ايضا التي كانت تعتقد ايران ان في استطاعتها تحويلها الى مستعمرة بعدما اقام بشّار الاسد حلفا مقدّسا مع «حزب الله» ووضع نفسه في خندق واحد معه متجاهلا مصالح سوريا ولبنان ومصالح السوريين واللبنانيين وحتّى الفارق بين الشيعة والعلويين.
تدل الهجمة الروسية ـ الإيرانية على العراق وتجدّد الهجمة الإيرانية على لبنان على شيء واحد. هذا الشيء هو انّ فلاديمير بوتين و»المرشد» علي خامنئي لا يمتلكان القدرات التي تمكنهما من اتباع سياسة توسّعية تستفيد من غياب الإستراتيجية الأميركية في شأن كلّ ما له علاقة من قريب او بعيد بالشرق الأوسط، خصوصا بالنسبة الى كلّ ما هو مرتبط بسوريا.
تستطيع ايران الإستثمار في الميليشيات المذهبية سنوات طويلة، ويستطيع الرئيس الروسي عرض كلّ انواع الأسلحة التي تمتلكها بلاده واستخدامها في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري. ولكن، في نهاية المطاف، تعاني ايران من مشاكل داخلية ضخمة حملتها على توقيع الإتفاق في شأن ملفّها النووي مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا. اما روسيا، فهي اشبة برجل مريض اكثر من ايّ شيء آخر.
مثلها مثل ايران، تعاني روسيا من هبوط اسعار النفط والغاز. فضلا عن ذلك، ان المجتمع الروسي يعاني من مجموعة من الأمراض الخطيرة، خصوصا ان روسيا هي بين البلدان القليلة في العالم التي يتناقص عدد سكّانها.
المأساة ان لا وجود لأي مشروع سياسي او اقتصادي لروسيا او ايران، لا في سوريا ولا لبنان ولا العراق. كلّ ما هناك سياسة عقيمة لا تصبّ الّا في الحاق مزيد من الدمار والخراب في البلدان الثلاثة. لو كان النظام في ايران يمتلك اي خبرة في اي مجال كان، لما كان نصف الشعب الإيراني يعيش تحت خطّ الفقر. ولو كان فلاديمير بوتين يمتلك نموذجا لدولة عصرية، لما كان المجتمع الروسي يعاني من كلّ الأمراض التي يعاني منها، على رأسها مرض الفساد.
لم يعد السؤال، للاسف الشديد، اي مستقبل للسياسة الروسية والإيرانية في المنطقة، بمقدار ما ان السؤال كم من الأضرار ستلحق بالمنطقة بسبب هذه السياسة…